سلام الله عليكم
كان ذلك في إحدى ليالي بغداد حين جلس الخليفة هارون الرشيد في مجلسه ..
وحوله الوزير جعفر البرمكي .. وولديه الأمين والمأمون ..
ومسرور السياف قائم بسيفه كظل للرهبة.
قال الخليفة .. وقد بدا عليه الملل من كثرة المديح والقصائد ..
ما أكثر العقلاء في بلاطي .. وما أقل من يدهشني !
هل في بغداد مجنون يستحق أن أراه؟
فأشار جعفر البرمكي وقال .. يا أمير المؤمنين هناك رجل في طرقات بغداد يقال له قاسم المجنون..
يكلم الناس بحكم لا يفهمونها ..
ويضحك من الموت .. ويبكي حين يضحك الناس.
قال هارون مبتسما .. أتينا به .. فلعل في جنونه ما يروح عن عقولنا!
فأتي بالرجل .. بثياب ممزقة .. وعينين فيهما بريق غريب ..
فلما دخل على الخليفة .. لم يسجد ولم يقبل الأرض ..
بل قال وهو يبتسم .. السلام على من ظن أنه يملك ...... وهو مملوك!
سكت المجلس.. وتجمد جعفر .. ورفع مسرور يده على مقبض سيفه.
لكن الرشيد رفع كفه وقال .. دعوه… كلامه يستحق السماع.
ثم قال له .. ويحك .. أتعرف من تخاطب؟ أنا أمير المؤمنين.
قال المجنون بل أنت أمير المترددين.. لأن المؤمن لا يتردد إلا في نفسه.
فضحك المأمون وقال حقّا إنه مجنون!
فالتفت إليه المجنون وقال وأنت يا ابن الخليفة .. أنت عاقل أكثر مما يجب…
والعقل الزائد كالملح في الطعام .. إن كثر أفسده.
نظر إليه الأمين وقال وما تقول في أنا؟
قال المجنون أنت تحب أن ترى.. ولو على حساب نفسك.
من أراد أن يكون قمرا فليتحمل عيون الليل.
فاندهش الجميع ..
أما هارون قام من عرشه واقترب من المجنون وقال يا هذا.. من أين لك هذه الحكمة وأنت مجنون؟
قال قاسم مبتسما يا أمير المؤمنين الجنون درجات ..
فمنهم من جن بالعقل .. ومنهم من جن بالحب ..
وأنا جننت بالله .. فلا أرى إلا هو.
قال جعفر البرمكي متعجبا وما معنى أن تجن بالله؟
قال المجنون أن تفقد نفسك فلا يبقى فيك إلا حكمته.
حينها ترى السيف فلا تخافه ..
وترى الذهب فلا تطلبه ..
وترى الملوك فلا تهابهم… لأنك رأيت الملك حقّا.
قال مسرور السياف متحديا وإن أمرني الخليفة بقطع رأسك الآن؟
ضحك المجنون وقال يا مسرور.. أنت سيف بيد تحركه ..
فإن قطعت رأسي .. فلن تقترب مني .. بل من أمرك.
وويل لمن يقتل ظله فيظن أنه قتلني.
عم السكون المجلس والرشيد غارق في تفكير لم يعرفه من قبل.
ثم قال هارون أيها المجنون .. سلني ما تشاء قبل أن أطلق سراحك.
قال المجنون أريد منك وعدا لا ينكث.
قال الرشيد لك وعدي.
قال المجنون إذا رأيتني تائها في طرقات بغداد بعد اليوم ..
فلا تقل هذا مجنون بل قل هذا عارف ضيق الله عليه الدنيا ليوسع له الآخرة.
ثم انحنى قليلا وقال أما أنت يا أمير المؤمنين .. فابكي ليلة واحدة في خلوتك ..
ليس ندما على ذنب .. بل حنينا إلى الله…
فإن فعلت علمت أني لست المجنون الوحيد في بغداد.
ثم خرج.
وفي تلك الليلة يروى أن هارون الرشيد بقي وحده في قصره حتى الفجر ..
ولم يسمع أحد صوته إلا وهو يقول ..
يا ربي ما أنا إلا ظلك في التراب… فاغفر لغرور الظل ..