سلام الله عليكم
اتذكر كل لحضة من تلك اللحضات .. 
دعوني احكي لكم قصة وفاة سيدي و مولاي شيخ الطريقة مولاي سيدي بوعبيد قدس الله سره و ادخله فسيح جناته ...
في ليلة ساكنة من ليالي الخريف ..
كان الشيخ مولاي سيدي بوعبيد رحمه الله مسجى على فراشه.. في زاويته المباركة ..
جسده ضعيف بسبب كبر سنه 105 سنة .. لكن عينيه تزدادان صفاء كأنهما نافذتان على عالم آخر.
و قلبه يخفق بالنور الالهي ..
جلس ساداتنا المريدين و السالكين و المرشدين حوله يبكون في صمت شيخهم ..
أما هو.. فابتسم وقال لا تبكوا يا ابنائي .. إنني لا أموت… إنني سأدخل طريق المسافر فقط ..
ثم أغمض عينيه قليلا ..
لابد انه شعر بوجود لطيف يملأ الغرفة .. كما شعرت به أنا و معظم ساداتي ابناء الطريق ..
لم يكن ظلا أسود كما يظن أغلب الناس ..
بل رأى نورا منسكبا في شكل إنسان بلا وجه ولا زمن.
فتح الشيخ عينيه و قال بصوت واثق هادئ .. ( حوار متخيل بين الشيخ و ملك الموت )
– أأنت الموت؟
قال الكائن النوراني بصوت يشبه الصدى القادم من أعماق الذاكرة ..
– أنا الاسم الذي تخافونه .. وأنا الحقيقة التي تنكرونها.
أنا باب العودة .. لا سوط النهاية.
قال الشيخ وهو يبتسم .. إذا .. لم أكن مخطئا حين قلت إنك وجه آخر للحياة ..
رد عليه الموت .. بل أنا الحياة بعد أن تتجرد من القناع.
من لم يعرفني في صلاته .. يعرفني في سكوني الأخير ..
تنفس الشيخ بعمق كمن يشم هواء الجنة لأول مرة ..
وقال طيلة حياتي كنت أرى الله في كل شيء..
في الحزن والفرح .. في الخطأ والصواب…
فهل أراك أنت أيضا وجها من وجوهه؟
أجابه الموت ... لو لم أكن وجها من وجوهه ..
لما جئتك بهذا الرفق.
أنا لست غريبا عنك يا ابو عبيد ..
لقد كنت تذكرني في كل سجدة حين تقول إلهي.. خذني إليك قبل أن تأخذني مني
سكت الشيخ لحظة ثم همس ... وها أنت تفعل ذلك الآن…
تأخذني مني .. وتردني إليه.
اقترب الموت .. ووضع يده النورانية على صدر الشيخ ..
لم يشعر الشيخ بألم .. بل بحرارة عذبة تسري فيه.
فقال الموت ... الآن ستنطفئ حواسك ..
لكن لا تخف .. ستفتح لك حواس أخرى..
سترى ما لا يرى .. وتسمع ما لا يسمع ..
وستعرف أن الحياة كانت فقط فصلا في كتاب لا ينتهي.
ابتسم الشيخ وقال .. وهل سأراه؟
قال الموت .. لم تكن بعيدا عنه لتراه…
كنت هو.. حين أحببت بلا خوف ..
وحين سامحت دون أن تطالب بالمغفرة.
عندها أغرورقت عينا الشيخ بالدمع .. وقال آخر كلماته ..
الموت ليس نهاية الذكر… بل بدايته.
ثم خرج منه نفس عميق أخير ..
فانسكب في الغرفة نور لم يره أحد إلا تلميذه الأصغر الذى كان مولانا الشيخ عبد الله مول الكرمة قدس الله سره ..
مرت أيام على رحيل الشيخ سيدي بوعبيد رحمه الله ..
الزاوية بدت صامتة كأن الجدران تحبس أنفاسها.
المريدون يجلسون في دوائر الذكر .. لكنهم يشعرون أن الهواء صار أثقل…
لم يعد الشيخ بينهم.
في تلك الليالي .. كان مولاي عبد الله رحمه الله — التلميذ الأصغر — يسهر وحده في غرفة الشيخ.
لم يكن يبكي .. بل كان يصغي.
كأن الصمت نفسه يهمس له بشيء لا يقال.
وفي ليلة من ليالي الجمعة .. حين اكتمل القمر ..
جلس شيخي مولاي عبد الله قدس الله سره الشريف في موضع الشيخ وأغلق عينيه.
ثم قال .. يا سيدي.. ابو عبيد تركتنا ولم تقل من بعدك!
كيف نسير بلا مرشد يرينا الطريق؟
فإذا بصوت داخلي يجيبه من عمق قلبه ..
ليس بصوت مسموع .. بل كهمس من النور نفسه ..
من قال إن الشيخ غاب؟
أنا لم أخرج منكم .. بل ذبت فيكم.
يا عبد الله .. كنت تسمعني من الخارج ..
والآن حان وقت أن تسمعني من الداخل ..
ارتجف قلب شيخنا مولاي عبد الله ..
وشعر بحرارة لطيفة تسري في صدره كما كانت تسري حين يضع الشيخ يده على قلبه.
ثم رأى أمامه ضوءا يتخذ هيئة الشيخ مولاي بوعبيد ..
لكن ملامحه كانت شفافة كأنه مصنوع من الحنين.
قال الشيخ عبد الله .. يا شيخي .. أهذا حلم؟
قال النور .. لا .. بل هذا وعيك حين يرفع عنه حجاب الحواس.
كل من أحب الله بصدق .. صار بيننا وبينكم جسرا من الشوق.
أنا هنا لأنك لم تبك لفراقي .. بل سألت .. كيف أُكمل الطريق؟
قال شيخنا مولاي عبد الله بخشوع ..
دلني يا سيدي .. كيف أكون بعدك إماما للمريدين وأنا ما زلت طفلا في العلم؟
قال النور مبتسما .. لا تفكر كالعلماء .. بل اشهد كالعرفاء.
الإمامة ليست في كثرة الكلام .. بل في أن تصبح أنت الطريق.
إذا دخل المريد عليك فشعر بالسكينة فقد رآني فيك.
وإن رأى فيك خوفا .. علم أن الشيخ ما زال غريبا عن بيتك.
ثم صمت قليلا وأضاف .. لا تعلمهم ما قلته ..
بل علمهم ما فهمته من صمتي.
فالكلمة تفني معناها
أما الصمت فيورث البقاء.
قال مولاي عبد الله ودموعه تلمع ومتى أراك يا سيدي؟
قال النور حين لا تفرق بينك وبيني.
حين تصير أنت النور الذي تبحث عنه.
يومها لن تراني لأنك ستكون أنا.
ثم تلاشى النورلكن قلب شيخنا مولاي عبد الله بقي مضيئا كفجر في صدر الليل.
ومن الغد.. اجتمع المريدون في الزاوية ..
فجلس مولاي عبد الله في موضع الشيخ .. صامتا.
نظروا إليه .. فرأوا في عينيه الطمأنينة التي كانت في عيني الشيخ.
فقال أحدهم .. ما الذي حدث لك هذه الليلة؟
قال مولاي عبد الله مبتسما .. لم يحدث شيء…
بل انكشف كل ما كان يحدث منذ الأزل.
ثم أغلق عينيه وبدأ الذكر ..
فشعر الجميع أن الغرفة امتلأت بالنور نفسه الذي عرفوه في حياة الشيخ.
ومنذ تلك اللحظة ..
علموا أن السر لم يمت… بل تبدل الوعاء.
رأيته يبتسم كمن عاد إلى بيته بعد سفر طويل ..