سلام الله عليكم
سنة 2001 لم تكن رحلتي إلى نيبال والهند سياحة ..
ربما في عمقي .. كانت نزولا من العقل إلى القلب .. ثم ارتقاء من القلب إلى ما وراءه.
في سفوح الهيمالايا.. وبين أديرة نيبال الصامتة.. شعرت أن الجبل نفسه يصلي…
ليس لأنه مقدس بحد ذاته.. بل لأن الصمت الذي يلفه هو لسان الوجود حين ينطق بغير صوت.
وصلت إلى أول معبد.. لم أسأل عن اسمه.
كانت تماثيل الآلهة في الخارج تبتسم, لا بتعالي .... بل بكشف كأنها تقول لي ....
نحن صور لما في داخلك. نحن مجاز عن قوى تتحرك في أعماقك .. لا أوثان تعبد.
دخلت المعبد وجلست...
في الركن .. كان تمثال كالي .. الإلهة ذات اللسان الممدود والوجه الغاضب.
تأملتها جيدا ربما رغبة مني في فهم شيء لا افهمه ..
آه… هذه ليست شيطانا.
رأيتها كنفس الشخص حين تحرق أوهامه
إنها القوة المدمرة للأنانية .. لا المخلوقة للخراب.
فهمت .. كل إله هنا، هو مرآة لحالة داخلية.
فيشنو .. رمز الحفظ و الثبات، الوعي الذي لا يموت..
شيفا ررمز الفناء.. الصمت الراقص في دائرة الزمن…
و هذا تمثال .. لاكشمي النعمة.. الرضا.. فيض اللطف في الأشياء الصغيرة
و هذا .. ساراسواتي الحكمة .. النور .. الأنثى العارفة الساكنة في الروح
و هنا تمثال كالي مثال الموت.. التجريد و الحريق المقدس الذي يطهر
و هنا كل معبد من المعابد .. هو تشبيه لقلب الإنسان ..
له باب ضيق .. ودهليز طويل .. وفي عمقه موضع نور صغير… لا تدركه العين .. بل يستشعره القلب.
في نيبال، صعدت جبلا صغيرا حيث دير بوذي قديم قيل لي كان فيه راهب لم يظلم احد ابدا ..
جلست و بعد لحظة جلس بجانبي راهب نحيل الجسم و طيلة نصف ساعة لم ينطق حرفا…
لكن صمته كان أكثر بيانا من آلاف الخطب.
كنت اجلس هناك و انا اقول لنفسي .. ( هل نحن نحتاج إلى الكلام.. أم أن الله يسمع ما لا نقوله؟ )
تأملت ساعة و أغمضت عيناي و سمعت صوتا داخلي يقول ..
الدين واحد…
الأشكال تتعدد .. لكن السالك الصادق يعرف أن كل الطرق إن طهر فيها القلب ..تلتقي في باب واحد.
عدت إلى الهند ..
زرت كومبهميلا .. مهرجانا روحيا يتجمع فيه الملايين.
لكنني لم أبحث عن الجماهير .. بل نظرت في عيون الناس…
رأيت الجوع الروحي فيهم ..
كلهم يبحثون عن شيء .. حتى وإن سموه -شيفا- أو -أتما-… فإنهم في العمق .. يبحثون عن وجهه سبحانه و تعالى.
جلست على ضفة نهر الغانج.
شاهدت الناس يغطسون و يصلون و يلقون رماد الأجساد فيه.
سألت الماء في ذلك النهر .. هل تطهرهم؟ أم أنك فقط رمز لطهر أبعد؟
سمعت همسا في قلبي يردد .. يا هذا ما كل طهر في الماء…
بل في من يغوص في نفسه حتى يصل إلى النبع.
وفي الليلة الأخيرة صليت صلاة الفجر في معبد مهجور… في جبل قيل لي انه مقدس ..
المعبد لم يكن فيه أحد… إلا أنا… وربي.
لم أمد يدي .. لم أحرك لساني .. فقط جلست.
وكانت الصلاة الكبرى هي حضوري.
بعدما انتهيت التفت فكان خلفي تمثال شيفا ..
عينيه نصف مفتوحتين كأنه يرى ما لا يرى ..
في عنقه الأفاعي .. وعلى رأسه الهلال ..
وفي صمته… الجواب الذي لم يسأل.
اقتربت…
وجلستُ أمامه.
وسمعته .. لا بأذني.. بل بصوت في داخلي يقول:
ما الذي أتى بك إلى هنا؟ ما حاجتك بي.. أيها العابر؟
أجبته ..
جئت أبحث عن السكون… عن صوت لا يضج بالكلمات.
عن موتٍ لا يحمل الخوف… جئت أبحث عن الحقيقية خلف كل وجوه الزيف.
سمعت شيفا يقول لي ..
إذن أنت لم تأتِ لتسجد .. بل لتفنى.
وليس كل من أتى إلى المعبد .. مستعد أن ينهي نفسه على عتبته.
هل عرفت من أنا؟
ضحكت في نفسي و قلت
يقولون إنك - المدمر - لكنني أراك عين الرحمة…
فما يدمر بك هو الكذب لا الحق.
لاحظت لاابتسامة من هذا العملاق شيفا يقول لي ..
جميل… لقد عرفتني .. أنا لست إلها خارجيا .. بل صورة لما يجب أن تكونه داخلك..
أنا السكون بعد أن تنتهي الحركة
أنا النار التي تأكل شوائب النفس.. لا الجسد
أنا الذي يحطم.. ليكشف
أنا الراقص على رماد الأنا … لا راقصا من أجلها ..
قاطعته قائلا ..
لكن… الفناء مؤلم.
فرد بسرعة ..
أتعرف ما يؤلمك؟
ليس الفناء… بل المقاومة.
فلو ألقيت نفسك في نار الحقيقة .. كما يلقى الرماد في نهر الغفران ..
لن يبقى منك إلا النور الأول…
ذلك الذي كنت عليه قبل أن تُسمى .. قبل أن تفكر .. قبل أن تخاف.
ردد عليه ..
وماذا يبقى لي بعدها؟
إن فنيت من أنا؟
قال لي شيفا ...
تبقى أنت… بلا ... أنا
وتلك هي الحرية الكبرى.
قلت له ..
أفهم الآن…
أنك لم تأت لتعبد .. بل لتفهم.
ولم تخلق لتطاع .. بل لتعبر بك النفس من وهمها إلى حقيقتها.
رد علي شيفا (بصوت خافت) ..
كل تمثال… إن لم يكسر في داخلك صار صنما.
فإن استطعت أن تراني داخلك،
فقد بدأت الطريق إليك.
ثم عاد الصمت.
وفي عمق ذلك الصمت ..
انطفأت الكلمات ..
واشتعل القلب ..
هناك فهمت ..
كل إله هنا هو اسم من أسماء النفس في تجلياتها.
وكل معبد هنا .. هو رمز للهيكل الداخلي الذي يجب أن يطهر.
وكل رحلة... إن لم تبدأ من القلب .. وتنته فيه… فهي مجرد خطوات.