بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين
هذه قصة حقيقية رواها لي جدي رحمه الله تعالى وأنا طفل عمري حوالي العشر سنوات، وقد كنت أحسبها من قصص الأجداد والجدات مجرد قصة لما قبل النوم، ولكن بعد أن شببت عن الطوق سألت جدي هل هذه القصة حقيقية،فكان جوابه بالإيجاب، ثم قال لي يا بني أليس فيها عبرة؟ فقلت له بلا فقال لي يكفيك هذا عن كل جواب.......
مرة في أحد أيام الحكم العثماني، كان في بلاط السلطان وزير وقد كان هذا الوزير محبوبا من العام والخاص مقربا من السلطان، يحبه الناس لحسن معاملته وسجاياه الحميدة.
وقد كان قد منَّ الله عليه بمال كثير وجاه عظيم وفوق هذا وذاك عقل راجح وبصيرة نافذة و كلمة مطاعة لا يراجعه فيها سلطان ولا فقير.
وفي أحد الأيام علم السلطان أن لأحد ولاة أمصاره النائية ابنة، آية من الجمال والعلم والأدب و التقوى، فعرض السلطان على الوزير أن يطلب له هذه الأميرة ليزوجه إياها فوافق الوزير.
ومن فوره شد الرحال إلى بلدها راكبا عباب البحر طالبا من أهلها يدها، فاستقبله الوالي بالترحاب لما سمع من صيته وما قاله عنه السلطان وغزه في الخطاب، فتزوج الوزير هذه الأميرة وقدم لها الهدايا الوفيرة التي تليق بها ومن هذه الهدايا خاتم كان لوالدته وأقيمت الأفراح والليالي الملاح سبع ليالي وكأنها النعيم المقيم، وعاد الوزير إلى بلاده ومعه عروسه وبينما هما على سطح السفينة يتسامران وإذا بالخاتم يقع من إصبع الأميرة لرقة يدها، فحزنت عليه لأنه من حبيبها فأخبرته والدمع ينهمر من مقلتيها فواساها الوزير واحتسبه عند الله الوكيل.
وفي هذه الأثناء اغتنم أحد الوزراء الحسَّاد غياب هذا الوزير الوفي وانشغاله بعروسته وسفره الذي هو فيه، فراح يدس الدسائس على وزيرنا عند السلطان ليفرق بينهما ولأن له في السلطنة مطمع وحاله معروف عند وزيرنا الطيب،ولكنه لم يجد من السلطان أذن واعية ولا قبل ما جلب له من أدعائات رآها السلطان واهية.
ومرت الأيام وعاد الوزير وعروسه إلى بلادهما، ورزقهما الله الذرية الصالحة الطيبة، وفي أحد الأيام إذ يستأذن الخادم على الوزير يطلبه فأذن له لكي يقابله، فأقبل الخادم مسرورا وفي يده خاتما عرفه الوزير إنه الخاتم الذي أهداه لعروسه وسقط منها في عباب البحر، فسأل الوزير الخادم أين وجدته فأخبره أنه رآه في بطن سمكة اشتراها من السوق كان يعدها لتكون غداء لهم، فسكت الوزير ولم يعقب فاستغرب الخادم هذا الموقف بأن الوزير ما فرح، وزاد استغرابه حين أمر الوزير زوجته أن تأخذ أبنائه وتذهب إلى أرض أبيها فتعجبت الزوجة من حال زوجها فسألته إن رأى منها تقصيراً أو تأخيرا، فأخبرها أن هذه رغبته وهذا خير لها فما كان منها إلا السمع والطاعة فأخذت أولادها وعادت إلى بلدها.
وفي هذه الأثناء ما كلَّ الوزير الشرير ولا ملَّ وراح يحيك الدسائس ليضعف السلطان وملكه ويقطع حبال الود بينه وبين وزيره، ولكثرة ما بث هذا الوزير في روع السلطان من الأحقاد وجلب له من شهود الزور من حلفوا له و أكدوا خيانة وزيرنا، فتغير قلبه عليه وتوعد له بالهلاك فاستدعى السلطان الوزير وأنبه وتوعده بالنكير، فأمر بسجنه وتجريده من منصبه وأصدر حكم الإعدام بحقه.
ولولا رحمة الله البالغة لهلك الوزير فقد تدخل بعض المقربين إلى السلطان واستشفعوا للوزير عنده، فقبل الشفاعة بما كان لهذا الوزير من حسن فعال لكنه نفاه و أمواله إلى أي البلاد يختار، فقبل الوزير فباع أملاكه في اسطنبول وجمع ماله وأعتق رق خدمه كلهم، إلا خادمه المخلص الذي جلب له الخاتم فما أراد أن يترك سيده لطول عشرته ومحبته له،فاختار هذا الوزير مدينة حلب لازدهار تجارتها وطيب محتد أهلها، وشد الرحال إليها واشترى خاناً فيها و اتخذه مسكنا ولا زال يعرف إلى الآن بخان الوزير، ومرت الأيام والشهور وراح هذا الوزير يعمل بالتجارة التي هي عمل آبائه وأسلافه، لكنه ما وفق فيها وخسر كل ماله وما جمع طيلة حياته، فأصبح يؤجر الخان ويقتات هو وخادمه من أجار الخان، إلى أن باع الخان ودخل في تجارة أخرى، فما ربحت وخسر حتى ثمن هذا الخان وصار يبيع من ممتلكاته الخاصة حتى يعتاش هو وخادمه إلى أن لم يبقى لديه شيء، إلا حلة الوزارة، رفض بيعها فطلب الخادم من سيده أن يبيع هذه البذلة فما رضي الوزير، وقال لخادمة أنت في حل من عشرتي فليذهب كل في حال سبيله، والله هو كافي الأمم، فرفض الخادم ترك سيده و ما رضي وفاءً منه وعرفانا.
و مما زاد مشقة الأمر مرض الوزير مرضا ًشديداً حتى ضعف عن الحركة، فراح الخادم يجمع من المزابل و البقايا ما يقيم به رمقهما، وفي أحد الأيام بعد أن قام الخادم بجمع بعض البقايا من النفايات ليأكلا، وبينما الوزير يرفع يده إلى فمه بلقمه، وإذا بغراب أسود هزيل ضعيف يخطف هذه اللقمة من يد الوزير.
فنظر الوزير إلى الخادم مستبشراً وطلب منه أن يحضر له من الماء ما يغسل به بدنه فتعجب الخادم وقال بينه وبين نفسه أن لابد وأن سيده قد جن، لكنه لم يرد أن يبدي هذا لسيده فأخذ دلواً وجلب به بعض الماء اغتسل الوزير ولبس حلة الوزارة التي كان يأبى بيعها، فصارت لدى الخادم قناعة كاملة بأن الوزير قد جن وقام الوزير ومعه الخادم يمشيان في السوق، فإذا بمناد ينادي هل من أحد يعرف مكان الوزير وله مكافئة مال وفير، فراحا يبحثا عن صاحب الصوت حتى وجداه، فوقف أمامه وقال له أنا الوزير ما حاجتك بي فإذا بالمنادي يفرح أشد الفرح ويقول له يا سيدي إن السلطان أرسل في الآفاق يطلبك ويبحث عن أثرك فقد بانت نية الوزير الشرير، فبعد أن خرجت من اسطنبول وخلى البلاط من ناصح أمين للسلطان، إلا من الوزير الشرير وأمثاله، حاول قتل السلطان حتى يسطوا على ملكه وعرشه، لكن الله سلم ونصر السلطان على أعدائه و الآن بعد أن ظهر الحق وزهق البطل أرسل السلطان في الأمصار يطلبك، ليعيد لك مكانك ومنصبك ويعتذر عما قصر في حقك ويعوضك، فدهش الخادم هنا وكاد أن يسلب عقله، فما كان منه إلا أن سأل الوزير حينما خلا فيه وقال له يا سيدي أوحي هذا أم كشف؟! ذهلتُ أول مرة عندما لم تفرح بالخاتم بعد أن أرجعه الله إليك لا وبل ترسل زوجتك وأبنائك إلى أبيها، ثم لم تبع حلة الوزارة حتى تلبسها اليوم، وتعرف بالمنادي ينادي يطلبك من غير أن تسمعه، فتبسم الوزير وقال له لا يا أخي وإنما قوله تعالى (إن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا) وهذا ما علمنيه والدي، أن الدنيا يوم لك ويوم عليك فبعد أن بلغت بي الدنيا قمَّتها، ملك وجاه ومال وغز، حتى أن أصغر شيء من ملكي ألا وهو الخاتم، قد عاد إلي من قلب البحر، فعرفت أن الدنيا تَغُرُني وقد بلغت ذروة سنامها، وقد ابتدأ الله تعالى الآية بالعسر، فخفت على زوجتي وأولادي من الضنك وقد كنت قد أعددت نفسي للقائه، ثم بعد ذلك عندما بلغت قمة الضعف وأرذله، بأن صرت آكل من المزابل وحتى طعام المزابل قد حرمني إياه أضعف مخلوق وأحقر مخلوق،غراب أسود فعرفت أن لا بد من بعد هذا النزول صعوداً، فإن اليسر يأتي من بعد العسر فهذا هو حال هذه الدنيا.
فلا تغتر بها يا أخي فما هي إلا كما قال سيدنا نوح بعد أن عاش تلك المدة الطويلة من الحياة والتي تفوق الألف عام ما أنا من هذه الدنيا إلا كمن دخل غرفة ثم خرج منها.
أسأل الله العلي القدير أن يختم بالطيبات الصالحات أعمالنا.