بنت السلطان هي الأميرة المملوكية خوند فاطمة بنت السلطان الظاهر ططر الذي حكم مصر والشام وجزءا من العراق وآسيا الصغرى مع الحجاز سنة 824 هـ . وهي أيضا أخت السلطان محمد بن ططر الذي حكم سنة 825 هـ . ثم هي زوجة السلطان الأشرف برسباي الذي حكم ما بين 825 : 841 هـ ، وقد عاشت هذه الأميرة المملوكية حياة حافلة إلى أن ماتت سنة 847 هـ في سلطنة الأشرف قايتباي .
. وكان برسباي قد تزوجها زواجا سياسيا واتخذها طريقا ليصل إلى السلطنة ، وبذلك أصبح الأمير المفضل لدى السلطان الظاهر ططر ،ثم لدى ابنه محمد بن ططر ، ثم استطاع أن يعزل ابن ططر ويتولى السلطنة محله ، وبعد أن تم الأمر له تزوج عليها ثلاث جميلات : خوند جلبان وهي أم ولده يوسف الذي تسلطن فيما بعده مدة قصيرة ، ثم خوند بنت الاتابكي " قائد الجيش يشبك الأعرج ، وخوند بنت ابن عثمان سلطان الدولة العثمانية
وظلت خوند فاطمة في عصمة زوجها السلطان برسباي وإن لم تنجب منه إلى أن مات برسباى سنة841 هـ . ثم تولى ابنه يوسف الذي عزله أقوى الأمراء وهو جقمق الذي تسلطن تحت اسم الظاهر جقمق.. وكانت الأميرة خوند فاطمة تطمع في أن يتزوجها السلطان الجديد فلما أعرض عنها اضطرت للنزول من القلعة مركز الحكم وأخذت معها جهازها الذي كان يقدر في ذلك الوقت بنحو مائة ألف دينار .. وبدأت حياة جديدة في القاهرة العاصمة المملوكية للدولة التي كانت تسيطر على معظم بلاد الشرق الأوسط في ذلك الوقت .
. ومارست خوند فاطمة حياتها الجديدة في حرية مطلقة كأي أرملة طروب تعيش في مجتمع المماليك المنفلت ، فقد صار على باب بيتها خدم وحشم وطواشية وحجاب بمثل ما تعودت في حياتها السابقة في القلعة .
. وكان القاضي " هاني " أول من " وصل " إلى الأميرة "خوند فاطمة "
والقاضي هاني كان في بدايته فلاحا هرب من قريته ثم لحق بالأزهر وأصبح من المجاورين فيه ، ولكنه لم يقنع بما يحصل عليه من العلم فتطلع إلى وسيلة تمكنه من الوصول السريع إلى المناصب الهامة ، وكانت خوند فاطمة وقتها مشهورة بصلاتها الواسعة ب" أولي الأمر " وبتواضعها " مع الشباب" الغرباء ، فاتصلت بينهما " حبال المودة " . ومفهوم ما بين السطور.!
والمؤرخ ابن الصيرفي عاش هذه الفترة وعاش أحداثها وكان زميلا للقاضي هاني وعرف بدايته وشهد وصوله السريع عن طريق علاقته بالأميرة المملوكية خوند فاطمة ، وهو يقول عن القاضي الشيخ هاني ومبدأ صلته بالأميرة فاطمة " وكان إذ ذاك شابا من مجاوري جامع الأزهر يتردد للطواشية فسأل أن يكون كاتبها فكان كذلك . " أي أن الشيخ هاني هو الذي سعى إلى بيت الأميرة وتعرف بالخدم لديها ، وعن طريقهم أصبح كاتبا لها . ومن هنا بدأ مشواره معها واشترت له الأميرة الوظائف حيث كان من المعتاد وقتها الحصول على أي وظيفة بالشراء والرشوة ، وكان هناك ديوان مختص لذلك اسمه " ديوان البذل والبرطلة " .
. ولم يكن الشيخ هاني هو الذي وصل – وحده – للمناصب عن طريق علاقته بالأميرة فاطمة .. فقد ظهر في حياتها الشيخ شرف الدين التتائي فأحبته وتدلهت في هواه ، وعن طريقها تعرف الشيخ التتائي بالأكابر وصعد إلى المناصب الكبرى وتقلب فيها .
ولأنها كانت تحبه بجنون فقد اشترطت عليه أن يتزوجها ، ولأنه كان في بداية الطريق فقد وافق على هذه الزيجة ، وكان التتائي مشهورا بالوسامة وكان يصغرها سنا ، وبينما كانت مجنونة بحبه كان هو يعتبرها وسيلة للوصول ، وكان حبها للشيخ التتائي من نوادر هذا العصر ، حتى لقد كتب المؤرخ ابن الصيرفي يعلق عليهما " وكانت تهواه وكان هو بضد ذلك ، وهذا من الشقاوة عملا بقول الشاعر المجيد البليغ :
ومن السعادة أن تحب وأن تحب
وأن يحبك من تحب
ومن الشقاوة أن تحب فلا تحب
ولا يحبك من تحب
. وحين وصل الشيخ التتائي عن طريقها للمناصب الكبرى طمع في الزواج من أميرة مملوكية أخرى ، فتزوج أرملة السلطان الظاهر جقمق وهي بنت الأمير جرباش ،وكانت أكثر جمالا وشبابا من خوند فاطمة ، يقول المؤرخ القاضي ابن الصيرفي عن خوند فاطمة " فكادت تهلك وشكته للسلطان فمن دونه فما رضي بها وقهرها ، وكان هذا شأنه وشأنها ."!!
ورضيت خوند فاطمة بالأمر الواقع وأن يكون لها شريك في حبيبها القاسي ، وبذلت كل ما تستطيع لتستأثر به ، فأنفقت عليه أموالا ضخمة في صنع المآدب الفخمة له ، ومع ذلك فقد ضجر منها فطلقها ، فكادت تصاب بالجنون وشكته للسلطان الأشرف أينال وسلطته عليه ، فاضطهده الأشرف أينال وعزله عن وظائفه وصادر أمواله ، ومع ذلك فلم يرضخ الشيخ شرف التتائي لضغط محبوبته السابقة وصمم على عدم الرجوع إليها .
وتولى السلطان الظاهر خشقدم فأعاد للشيخ التتائي مناصبه وأمواله وأعاد له مكانته وبذلك تحرر الشيخ التتائي من ذلك الغرام المهلك .
. وتدهورت أحوال الأميرة البائسة بعد أن هجرها حبيبها الشيخ شرف الدين التتائي ، وكانت أحوالها المالية قد تدهورت من قبل بسبب ما تعودته من إسراف وبما أنفقته على حبيبها من أموال ، فكانت تبيع ما لديها من الأثاث الفاخر . وبسبب هذا الحال الذى وصلت اليه فقد تواضع مستوى "معارفها "، فوقعت فى علاقة بتاجر أوصلها إلى الإفلاس واسمه ابن قضاة ، استفاد من إسرافها وحمقها وعدم معرفتها بالأسعار، وكسب منها الكثير .
ولكن طيف حبيبها قاسى القلب الشيخ التتائى ظل يؤرقها ، ولكي تحاول النسيان انغمست في حياة صاخبة وفى "صداقات " ورجال كثيرين لتملأ بهم حياتها الفارغة ، وكانت على عادتها تقيم لهم الحفلات الصاخبة وتبيع في سبيل ذلك الجواهر والأثاث مما تبقى معها ، الى أن وصلت الى مرحلة الاقتراض ، يقول عنها مؤرخنا ابن الصيرفى فى تاريخه (إنباء الهصر بأبناء العصر ): " وصارت خوند المذكورة تبيع قماشها وترهن وتقترض وتبذر وتبيع الغالي والعالي بالرخيص والسافل ، وتقترض الدرهم بمثله – أي تدفع عليه ربا بفائدة مثله – حتى ضيعت جميع ما ملكته ، وصارت تقترض وتعطي ، ثم صارت تقترض فلا تعطي ، ثم صارت لا ترى أحدا يقرضها شيئا . "
وقبل ذلك كان السلطان جقمق يسدد عنها ديونها إلا أنها أدمنت الإسراف في النفقات فيما بعد أكثر وأكثر لتعويض فشلها مع زوجها السابق ، فركبتها الديون ، وامتنع الناس عن إقراضها ، فدخلت في دور جديد هو التحايل على الناس واستثمار صلاتها بالجهات العليا لتبيع نفوذها لدى الراغبين فى الوصول للمناصب .
لذلك انغمست في علاقات مع حريم السلطان أينال ، وكانت تقوم بالوساطات والشفاعات نظير الأموال ، وفى هذه المرحلة من حياتها تزوجها شاب جديد نصاب هو منصور الاستادار كان على شاكلتها ، وحين أدرك ما يصبو إليه ووصل عن طريقها سرعان ما طلقها كالعادة ، ولم تحزن لذلك ، إذ أدركت في النهاية أنها مجرد جسر أو سلم يصعد عليه الطموحون للمناصب منذ أن تزوجها الأمير برسباي وهي بنت للسلطان لكي يصل إلى السلطنة .. وظلت معبرا للطموحين الوصوليين من أمثال الشيخان هاني والتتائي ، ومنصور وغيرهم .
. واستمرت حتى سلطنة قايتباي تمارس دورها الجديد واسطة لأرباب الحوائج ترتزق من هذه المهنة فى مجتمع يقوم على الواسطة و شراء المناصب والرشاوى المالية و العينية و الجنسية ، بينما يعلن تطبيق الشريعة ، يحكم بها قضاة وصوليون وسلاطين فاسدون وحريم متنفذات يمارسن الانحلال والمحرمات خلف النقاب . برزت فى هذا المجتمع الأميرة خوند فاطمة بطلة قصتنا ، فكانت تقابل أولي الأمر وتدخل على نسائهم ، وتتشبه بالأمراء المماليك الرجال فتركب الخيول وتحضر الحفلات ، أى صارت من نجوم المجتمع ، فقد تعاملت مع أغلب طوائفه فى القاهرة المملوكية ، فانبهر بها أهل الطبقة الوسطى من الفقهاء والكتّاب ، نلمح هذا من حديث مؤرخنا ابن الصيرفى عنها ، إذ يقول إنها كانت مشهورة باللباقة في المأكل وفي المشرب وفي الحديث وحتى في أمور الخداع والتحايل ، ثم لا يلبث أن ينتقدها بقسوة متضايقا من أحوالها فيقول :" وزعمت أنها تقضي حوائج الناس وصارت تتكلم عندهم للناس وتساعد من تختار وتحمي بالقوة ، وتركب وتدور، ولا تتأخر عن فرح ولا كره لأحد الأكابر ، وكانت مشهورة باللباقة في المأكل والمشرب ، وصارت أمثولة في العالم من هذه الأفعال الرذيلة والأحوال التي لا يقدم عليها غيرها . " .
. وماتت خوند فاطمة في الستين من عمرها وتركت عليها من الديون الشيء الكثير فضاع على أصحابه .
آخر السطر:
خوند فاطمة هى نتاج لعصرها ، وأى عصر فاسد ، وأشد العصور فسادا هو ذلك الذى يمارس الفساد متخفيا خلف شعار الشريعة الاسلامية ، رافعا راية النقاب والحجاب و اللحية وتقصير الجلباب والثياب ، لذا ترى خوند فاطمة تتكرر علنا أو خفية .
ولا زلنا نعيش فى ظلمات الماضى وفساده و استبداده ونحن نرفع اسم الاسلام ، وهو منا برىء .!!
فنحن لا نكتب تلك القصص التاريخية الخفية للتسلية ، ولكن للعبرة ، ولنتعرف على ( السلف الصالح ) الذى كان يطبق الشريعة إسما وهو يحارب الله جل وعلا فعلا