سلام الله عليكم
طبعا بموافقة سيدنا ابو شاهين حفظه الله و ابنتنا المرشدة ليلى .. انقل القصة ..
سنة 2001 .. في أطراف مدينة قديمة بالرباط .. بين صخب الأسواق وصمت الزوايا ..
كانت ليلى شابة هادئة الملامح .. يكسو عينيها نور غريب ..
نور لا يشبه نظرة العاشقين ولا نظرة الحالمين ..
بل نظرة من رأى ما لا يقال.
بدأ الأمر حينما كانت ليلى تصلي ذات فجر ..
فانشق أمامها المشهد الذي تعرفه ..
ورأت خلف جدران الدنيا عالما آخر
أنهارا من نور ..
ومدائن من ذهب ..
وأبوابا من ياقوت تتفتح بلا مفتاح ..
وأرواحا تمشي على الأرض كما تمشي النسائم.. لا ظل لها.
عادت من تلك الرؤيا وهي مذهولة ..
تحاول أن تخبر الناس بما رأت ..
لكنهم اتهموها بالجنون ..
قال بعضهم .. أُصيبت بمس من الأرواح ..
وقال آخرون إنها تهذي.. فلتعرض على الأطباء ..
لكنها كانت تعلم في أعماقها أن ما رأته ليس وهما ..
بل كان حجابا انكشف لها لحظة واحدة ..
ثم أُغلق لتكمل سيرها في عالم الظلال.
تعبت ليلى من الصراع بين ما ترى وما يقال ..
فذهبت إلى المرشد أبو شاهين ..
رجل ذاعت حكمته بين الناس .. المحبين له و الواثفين منه ..
سيدنا ابو شاهين يقول دائما .. من فتح الله له عين البصيرة فلا يلومن من لا يرى
دخلت عليه في زاويته المتواضعة .. وقدمت له التحية وهي تبكي
قالت .. يا سيدي أرى أشياء لا يراها أحد ..
وأزور عوالم من نور.. وأسمع أناشيد من السماء ..
لكنهم يقولون عني مجنونة… فهل أنا كذلك؟
نظر إليها أبو شاهين طويلا ..
ثم أطرق برهة .. وقال بصوت كأنه يأتي من عمق الوجود ..
يا ابنتي الجنون أن يرى الانسان الدنيا وحدها ..
أما أنت فقد رأيت ما وراءها.
لا تخافي من الرؤيا .. ولكن خافي من الغرور بها.
فالعوالم التي زرتها ليست مكانا .. بل مقاما ..
وليست مدنا من ذهب.. بل صورا من علمك الداخلي.
سكت قليلا ثم قال ..
ما رأيته هو تجلي من تجليات النفس حين تصفو ..
فترى الأكوان المتجاورة التي يعيش فيها الناس وهم لا يعلمون.
إنها الأبعاد الخفية التي يتحدث عنها العارفون ..
كل بعد منها قائم بالذكر والنية والصفاء.
ومن طهر قلبه دخلها بلا موت .. ومن غفل خرج منها وهو حي ميت.
ولكن يا ليلى…
إن الطريق بين الرؤيا والجنون شعرة ..
من مشى فيها بنفسه سقط ..
ومن مشى فيها بالله .. وصل.
ما ترينه من مدن وجنات ليس غايتك .. بل إشارة فقط ..
لأن الجنة التي يبحث عنها الناس ليست هناك…
بل فيك أنت في أعماق وعيك في مقام سكينتك.
لا تتعلقي بما رأيت .. بل اسألي.. من الذي يرى؟
فإذا وجدت الرائي فيك .. فقد عرفت الطريق.
كانت ليلى تنصت ودموعها تنزل بصمت ثم قالت ..
يا سيدي.. هل يعني ذلك أنني لم أجن؟
وأن ما رأيته حقيقي؟
ابتسم أبو شاهين ابتسامة من يعرف سر الأسرار .. وقال ..
يا ابنتي الحقيقة لا تقاس بالعقل .. بل بالطمأنينة.
إن ما رأيته حقيقي بقدر صدقك في السعي إليه ..
والجنون هو أن تحاولي شرحه لمن لم يذق.
دعي النور يعمل فيك بصمت ..
ولا تتحدثي إلا مع من يرى بعين القلب.
ومنذ ذلك اليوم ..
لم تعد ليلى تخبر أحدا بما ترى ..
بل بدأت تسير في صمت عارف ..
كل رؤيا جديدة تمر بها كأنها فصل من كتاب لم يكتب بعد.
وعندما كانت تسأل عن تجربتها .. كانت تبتسم وتقول كنت أظن أني وصلت إلى الجنة ..
ثم عرفت أن الجنة كانت تبحث عني في داخلي.
مضت شهور بعد لقائها بالمرشد أبو شاهين ..
ولم تعد ليلى كما كانت.
كانت تمشي بين الناس بهدوء عجيب ..
تستمع إلى حديثهم عن الدنيا ..
لكن في داخلها كانت تسمع حديثا آخر ... حديث الأرواح والرياح والنجوم.
كانت ترى الناس كأنهم ظلال لأنفسهم الأصلية ..
تسير أجسادهم في الأسواق .. لكن أرواحهم تائهة بين أبعاد لا يرونها.
كانت ترى ذلك وتبكي بصمت .. لأنها تذكرت كلمات أبو شاهين ..
الناس يا ليلى.. يسيرون في المنام .. ويظنون أنهم مستيقظون.
وفي ليلة من ليالي التأمل ..
جلست ليلى في خلوتها الصغيرة .. تفتح كفيها نحو السماء ..
وقالت في سكون عميق .. يا رب.. إن كنت قد أريتني العوالم من قبل بعين الخيال ..
فأرني الآن حقيقتها بعين القلب.
وسمعت في داخلها صوتا بلا صوت يقول
إنك لن تريها يا ليلى إلا إذا مت قبل أن تموتي.
ارتجفت… ثم سكنت... لم تعرف من يكلمها من داخلها ..
و لكنها فهمت أن الموت المقصود ليس فناء الجسد ..
بل فناء الأنا .. تلك التي تقول .. أنا رأيت ... أنا وصلت.
فأغمضت عينيها .. وبدأت تنقص من داخلها كل ما ليس لله ..
رغبتها في أن تعجب الناس ..
خوفها من الجنون ..
فرحتها بالرؤى ..
بل حتى شوقها إلى الجنة التي رأت من قبل...
كل ذلك تركته ... كما يسقط المسافر أحماله الثقيلة على باب المعراج.
وفي تلك اللحظة..
انفتح أمامها باب لا باب له..
فرأت المدن التي زارتها من قبل..
لكنها الآن لم تكن من ذهب ولا ياقوت..
بل كانت من نور صاف ..
كأنها نسجت من أنفاس الرحمن.
وسمعت أصواتا تملأ الفضاء ..
لكنها لم تكن أصوات بشر.........
بل همسات تقول داخلها .....كل ما رأيت في الخارج لم يكن إلا أنت ..
تأملت حولها ..
فرأت أن الجنة كانت قلبها حين صفا ..
والنار كانت خوفها القديم حين اشتعل ..
وأن الأنهار كانت دموعها التي طهرتها ..
والأبواب الياقوتية كانت مقامات المعرفة التي فتحت لها بالصدق الذى في قلبها...
وفجأة ظهر أبو شاهين في رؤياها ..
لم يكن جسدا بل نورا على هيئة إنسان وقال لها ..
ها قد وصلت يا ليلى .. لا إلى الجنة.. بل إلى نفسك.
لقد كنت تزورين المرايا .. وها أنت الآن في الأصل.
كل من أراد معرفة الله .. فليدخل من باب نفسه ..
فإن الله أقرب إلى قلب العبد من بعد كل سماء.
ثم أضاف بصوت كأنه نبع من أعماقها ..
الآن انتهت رحلتك في الرؤيا .. وبدأت رحلتك في الوجود.
من هنا يبدأ السير الحقيقي.
استيقظت ليلى من تأملها ..
فوجدت الدموع تملأ وجهها ..
لكنها لم تكن دموع حزن .... بل دموع يقين.
ومنذ تلك الليلة ..
لم تعد ترى المدن ولا الأنهار ..
بل كانت ترى الله في كل شيء ...
في المارة .. في الغيم .. في صمت الفجر.
وأصبحت كلماتها قليلة ..
لكن كل كلمة منها كانت تحيي قلبا حتى صار الناس يأتون إليها يسألونها:
يا ليلى .. كيف وصلت؟
فتبتسم وتقول .. ما وصلت .. بل وصلت الحقيقة إلي حين لم يبق في شيء يمنعها.
مضت السنوات وكان حديث الناس عن ليلى يتغير.
الذين كانوا يأتون إليها في البداية يتسائلون عن رؤاها وأحلامها ..
بدأوا الآن يسألون عن الحقيقة التي رأتها.
لكن ليلى لم تعد تشير إلى شيء خارجها.. بل كانت تقول بصوت هادئ ..
إذا أردتم أن تعرفوا .. اغلقوا عيونكم وأصغوا إلى قلبكم.
كانت روحها مفتوحة كالسماء .. وكانت تفيض بالسلام.
عندما يأتي إليها من يسأل عن الرؤى أو الرحلات الباطنية ..
كانت تجلس معهم في صمت طويل .. ثم تقول ..
إنما سألتم عن الرؤى لأنكم ضللتم الطريق.
الرؤى ليست هي الطريق .. بل هي الانعكاسات على قلبك الذي لا يزال يظن أنه مسافر.
إذا كنت في الحقيقة .. لن يكون هناك شيء لتراه.. لأنك ستكون في كل شيء.
وفي أحد الأيام جاء إليها رجل عابس الوجه .. كان اسمه جلال ..
وكان واضحا في عينيه أن هموما ثقيلة تضغط على قلبه.
قال الرجل يا ليلى .. سمعت عنك الكثير ..
وقد جئت إليك لأنني لا أرى شيئا...
لا أرى الناس .. ولا أشعر بأنني في مكان صحيح ..
حتى أنني فقدت الإيمان. أرجوك أخبريني ما الذي يحدث لي؟
ابتسمت ليلى ابتسامة هادئة ثم قالت أنت ترى كل شيء يا أخي ..
لكنك لا ترى النور الذي فيه.
دعني أسألك .. هل شعرت يوما أن قلبك أعمق من أي ظلام؟
هل جربت أن تقف في مكانك .. وأنت تقول لنفسك أنا لا أحتاج إلى شيء آخر سوى ما في قلبي؟
قال الرجل بحيرة لكن كيف؟ كيف يمكن أن أعيش بلا أنظار الناس؟ بلا صلاتهم بلا مبادئهم؟
أجابته ليلى الأشياء التي تبحث عنها في الخارج لا تعطيك سوى الظلال
أما في الداخل فالنور لا ينطفئ.
توقف عن البحث في الأماكن البعيدة لأنك هناك تجد فقط المسافات.
ابحث في ذاتك .. وعندها ستكتشف أنك لا تحتاج إلى أن ترى شيئا لتشعر بوجودك ..
بل إلى أن تكون في اللحظة أن تكون هنا والآن.
ثم نهضت ليلى ووضعت يدها على قلبه ..
وأغمضت عينيها .. فعاد الرجل يسير كما كان .. لكن بعينين جديدتين.
ابننا جلال مهندس عبقري .. خطب ليلى من ابو شاهين لانه ابوها الروحي ..
و تزوجها بعد شهرين من معرفتهما ..
وبينما كانت الأيام تمضي .. بدأت ليلى تصبح مرشدة حقيقية ..
ولكنها لم تظن أبدا أنها قد وصلت إلى غاية.
لم تكن تعرف أنها قد أصبحت مرشدة بحق ..
حتى زارها ذات يوم أبو شاهين نفسه... في بيتها و بيت جلال ..
وقد بدا وجهه مسرورا .. لكنه نظر إليها بحكمة وقال ..
لقد وصلتِ يا ليلى .. إلى ما كان فيك منذ البداية
لا يعلمك الطريق سوى من سلكه ..
ولا يعلمك النور إلا من صار هو النور.
ومع ابتسامة مطمئنة .. خرج أبو شاهين من مكانه ..
كما خرج النور من بين الغيوم ..
ليترك ليلى في مكانها ..
تفيض بالحكمة والسلام الذي لا ينتهي.