سلام الله عليكم
في القرآن الكريم نجد اية عميقة المعنى تقول لنا "ورتّل القرآن ترتيلًا"
معنى هذه الاية ... اقرأه بتمهل وذوق .. لأن المعنى لا يظهر دفعة واحدة بل يتجلى على مراحل.
اقرأ جيدا ما سأكتبه خصوصا اذا كنت من أبناء هذه الدائرة فالقصد موجه لكل واحد من ابناءنا فإن وجدت سطرا أو فكرة هزتك من الداخل.. توقف عندها، أغمض عينيك، واسأل نفسك:
“ما الذي يريد هذا المعنى أن يقوله لي أنا بالذات؟”
من مذكراتي الخاصة
قبل 35 سنة تقريبا ......... جلس بلباسه الانيق جدا و جسمه النحيف و نظارته الذهبية ... و نظراته لا تتزحزح عن النظر المباشر لي .. بعد ان أولت له بعض الايات من القران الكريم .. رغم تقافته الانجليزية العميقة بحكم ان والديه بريطانيين و لكنه قد أسلم و هو ابن سبعة عشر سنه فصح اسلامه و طبق الاسلام الحقيقي في تعاملاته كلها فكان من اولياء الله الذين فوق الارض
درس العربية بشوق فاصيح يتقنها اكثر من العرب انفسهم و قرا القران الكريم فحفظ نصفه و حريص جدا على قراءة كل كتب العرب قرأ القصص و الرويات و بحث عن التاريخي الحقيقي للاسلام و لديه من الحكمة و العلم ما يبهر المشايخ في بلداننا و يحير الحكماء و الفلاسفة في بلداننا قبل 30 سنة سنة كان قد تزوج من احدى بنات مولانا الشيخ عبد الله قدس الله سره و له منها ولدين و بنت واحدة .. انه مولاي ابو الوليد قدس الله سره
هو في الله و صديقي من ازيد من خمسين سنة حججنا البيت معا و اعتمرنا معا و لغاية اليوم الاناقة و الحكمة و النور لا يفارق سيدي ابو الوليد قدس الله سره ..
فقلت قبل اربعين سنة ... جلس بالقرب مني و قد أزال معطفه و اعاد التركيز مع كل كلمة أقولها .. فهو حريص جدا على ان يسجل في عقله قلبه قبل مذكراته التى لا تفارقه اي كلمة اقولها ..
سألني .. تعجب من تأويل بعض الايات و قال .. كيف يمكن لسيدنا محمد ﷺ أن يحمل هذا العمق الرمزي والفلسفي ثم يخاطب به قومًا اغلبهم من البداوة و الجفاوة و الجهل في اعماق الصحراء ؟
كيف يمكن لهذا العمق الباطني في تأويل القران الكريم .. أن يصل إلى أناس في البداوة لا يقرأون ولا يكتبون، ويطلب منهم أن “يؤمنوا” برسالة من هذا العيار؟
كان يسأل و يبحث عن اجابة شافية .... فقلت له ..
القرآن نفسه يقول في الاية السابعة من ال عمران
"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات... وأخر متشابهات"
ويقول في سورة فصلت الاية 53 "سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم..."
النبي محمد ﷺ كان يوجه خطابه لطبقات متدرجة في سلم هذه الارض ..
أولها طبقة عامة بسيطة .. اقصد للناس العاديين، بالكلمات، بالأمثال، بالمحسوس.. بالقصص و المعاني الملموسة ..
و ثانيها طبقة عقلية تشريعية اي لأصحاب العقول و المفكرين بالمجادلة، بالحجج، بالشريعة.
و ثالثها طبقة رمزية روحية و هم أهل البصيرة ففهمو بالرمز، بالإشارة، بالصمت أحيانًا.
وكان يقول عليه الصلاة و السلام "حدثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذَّب الله ورسوله؟"
يعني لا تفرغ المعاني العميقة لمن لا يقدر على فهمها.
فالباطن من التأويل للايات كان محفوظًا لأهل الباطن
النبي ﷺ لم يخاطب كل العرب بالباطن .. لكن كان في صحابته ..
أبو بكر .. صاحب السر و كان يعرف الباطن .. وكان النبي يقول "ما سقي الناس أفضل من عقل أبي بكر".
سيدنا علي بن أبي طالب باب مدينة العلم .. وصاحب التأويل.. وكان يقول: "لو شئتُ لأوقرتُ سبعين بعيرًا من تأويل (الـحـمـد لله رب العالمين)". اي يعطي 70 بعيرا لمن يؤل فقط الحمد لله رب العالمين ..
و عندك سلمان الفارسي وأُبي بن كعب وابن مسعود ومعاذ بن جبل... كلهم أصحاب أسرار.
هنا نفهم انه كان الظاهر من التفسير للعامة والباطن للعارفين.
شي اخر العرب لم يطلب منهم فهم كل شيء... بل أن يذوقوا شيئًا
الدعوة الأولى لم تكن "افهموا رموز القرآن"، بل كانت
"قولوا لا إله إلا الله تفلحوا"
هو خطاب ذوق وبساطة ... ثم لما دخلوا في النور بدأت عملية التحول الباطني.. رويدا رويدا
اي انه
نزلت الصلاة التى تربي النفس.
الصيام الذى يكسر الشهوة.
القرآن الذى يغذي الروح.
الجهاد النفسي و الجسدي يفصل بين الحق والباطل.
وهكذا تربوا حتى أصبحوا مؤهلين للذوق. ولهذا:
لم يكن الصحابة يسألون النبي عن "المتشابه"، بل كانوا يعيشونه ويذوقونه.
وكان القرآن يقول "قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا..."
أي: قوموا وذوقوا أولًا ............................. ثم سيفتح الله عليكم بالفهم.
فسيدنا محمد ﷺ كان حاملا للباطن الكامل .. لكنه خاطب الناس بقدر عقولهم وقلوبهم.
وكان يعلم أن الروح تنمو بالتدريج .. فزرع البذرة (لا إله إلا الله) .. وسقى القلوب بالرحمة.. وترك التأويل لمن تأهل له.
رد علي ابو الوليد ... ممتاز هذه مفهوم و لكن دعني اعرف عن سيدنا رسول الله نفسه هل كان لديه فهم باطني عميق جدا لما يقوله من الايات .. هل القران عصارة فهمه فتنزل على قلبه ففهمه عقله الباطن او هو اللى كتبه بطريقته فكان جامعا بين الباطن لأهل السر و الظاهر للعامة من الناس ؟
فاستغربت من كلامه و قلت ... هل كان النبي محمد يفهم الباطن من كلامه؟
نعم وبقوة.
لكن كان يفهمه بطريقة ذوقية كشفية .. لا بالطريقة الأكاديمية الفلسفية.
لم يكن النبي “يشرح” المعاني الرمزية كما نفعل نحن الآن ..لكنه يعيشها ويتجلى له معناها من غير حاجة للبرهنة.
ساداتنا اهل الباطن (كالجنيد، وابن عربي، والرومي) يقولون:
"مقام النبوة فوق مقام الفلسفة، لأنه شهود لا تحليل."
بمعنى: النبي لا يحلّل... بل يرى.
هو في مقام الكشف المباشر .. كمن يرى النور .. لا كمن يدرس الضوء في المختبر.
ولهذا قال النبي ﷺ "لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكيتم كثيرًا."
هذا التصريح يحمل رؤية باطنية ثقيلة جدًا لا تشرح لعامة الناس.
في المدرسة الصوفية/الباطنية ... ينظر للنبي باعتباره مرآة صافية.. تتلقى الوحي لا من عقلها الباطن الإنساني .. بل من العقل الكوني/الروح الكلية/العقل الأول.
فيكون القرآن "تنـزل من الحقيقة الإلهية عبر مرآة محمدية."
كما قال مولانا محي الدين ابن عربي "القرآن هو الذات الإلهية في صورة الحرف."
فهو لا من "خياله" ولا "عقله الباطن" .. بل من مقام فوق الوعي البشري .. لكن يستقبل في النفس النبوية ثم يترجم بلغة بشرية.
فهنا المتأمل العاقل يرى حتى لو كان القرآن من مطلق إلهي.. إلا أنه يصب في قالب لغوي بشري.
ولذلك يقال أن القرآن هو "إلهيّ المصدر، محمديّ اللسان، عربي التعبير."
أي أن النبي لم “يخترع” القرآن لكنه الوعاء الذي صب فيه النور بلغة الناس.
الكتب ليست لأجل الله... بل لأجلنا نحن.
لأن الوعي البشري محدود .. ولا يحتمل الحقيقة الكاملة بدون وسائط.
هل يمكن أن ينزل الله الحقيقة بدون “كتاب”؟
نعم، ولكن عندئذ لن يفهمها أحد.
النور الأبيض يحتوي كل الألوان... لكنك لا تراها ..
الله لا يحتاج أن “يكتب”... لكن الإنسان يحتاج أن يقرأ.
والكتب ليست “إلهًا يكتب” بل “حقيقة تتنزل بلغة الممكن”.