سلام الله عليكم
سورة نوح ليست فقط حكاية عن نبي.. بل خريطة باطنية روحانية فيها رموز للطريق النفس، القلب، والنجاة من ظلمات النفس إلى نور الحق.
يقول تعالى ..
﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَىٰ قَوْمِهِ ﴾
نوح هنا يمثّل العقل الكلي أو الروح العليا التي يبعثها الحق إلى الإنسان ليخرجه من ظلمات الجهل والأنانية إلى نور التوحيد.
قومه هم قوى النفس السفلية (الهوى، الغضب، الشهوة، الحسد، التكبر… إلخ) أي الجانب البشري الغافل في الكائن.
﴿ أَن أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾
الإنذار هنا هو الإيقاظ الروحي.. فالروح (نوح) تنذر النفس أن العذاب ليس في الآخرة فقط.. بل هو الغرق في الغفلة والانفصال عن الأصل.
﴿ قَالَ يَٰقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾
الروح (نوح) تنادي النفس... تنذرها، تدعوها للرجوع. "نذير مبين" معناها الكشف الصريح أو الإلهام الواضح الذي يدعو النفس للتوبة.
﴿ أَنِ ٱعْبُدُوا۟ ٱللَّهَ وَٱتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ ﴾
"اعبدوا الله" = توحيد القلب و خلع الأصنام النفسية.
"اتقوه" = الانتباه الدائم للحضور الإلهي في كل لحظة.
"أطيعون" = اتبعوا الروح.. لا الأهواء.
﴿ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ ﴾
الغفران هنا هو الستر على النقائص، وتجاوز حدود النفس.
﴿ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا ﴾
هذه دعوة دائمة من الروح إلى النفس: ليلًا (حين يغيب الوعي)، ونهارًا (حين يكون الإنسان حاضرًا في ظاهره)، لكنها لا تستجيب.
﴿ فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَآءِىٓ إِلَّا فِرَارًا ﴾
النفس الأمارة تهرب من النداء الروحي.. تتشبث بالعالم السفلي .. ولا تصغي للنداء النوراني.
﴿ وَجَعَلُوا۟ أَصَٰبِعَهُمْ فِىٓ ءَاذَانِهِمْ ﴾
إنها رمزية للغلق التام عن السماع القلبي.. عن "السِّرّ" لا عن الكلمات.
﴿ وَٱسْتَغْشَوْا۟ ثِيَابَهُمْ ﴾
لبس "ثياب الغفلة".. أي التستر بالهوى والعادة والأنانية.. لإخفاء حقيقة النفس عن النور.
﴿ ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا * ثُمَّ إِنِّيٓ أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا ﴾
الله .. الله .. انها دعوة الظاهر والباطن. فالروح تخاطب النفس جهارًا (بالعقل) وسرًا (بالإلهام، بالأحلام، بالحدس).
﴿ فَقُلْتُ ٱسْتَغْفِرُوا۟ رَبَّكُمْ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارًا ﴾
الاستغفار هنا ليس فقط طلب المغفرة.......... بل تخلية للنفس من العوالق و تطهير الباطن و فتح القلب.
فالسفينة النوحية هي رمز النجاة الباطنية و هذه السفينة ليست خشبًا ومسامير بل هي:
الذكر .. الصدق في السلوك ... الإخلاص في النية ... صحبة الأولياء
هي الوسيلة الباطنية للعبور من ظلمات النفس (الطوفان) إلى نور الروح (السلام).
كل من ركب السفينة نجا و كل من صدق في السير واتبع الروح وفنى عن الأنا… نجا من الغرق في التكرار والظلمات.
ومن تخلّف عنها كان من أهل الغفلة. حتى ابن نوح… لأنه كان من "أهل غير الصدق" أي لم يكن موافقًا للروح في الجوهر .. رغم قربه في النسب.
الطوفان هو رمز التجربة الروحية العنيفة ..... الطوفان لم يكن طوفانا مائيًا .. بل غرقًا في مجاهدة النفس. إنه الفوضى التي تسبق التكوين.
كل مريد و سالك صادق .. يمرّ بطوفان داخلي من ضياع .. قلق .. تشكيك .. تحطيم لليقين الزائف.
لكن هذا افطوفان لا ينجو فيه إلا من ركب السفينة أي من تشبث بالذكر .. بالمراقبة .. بالمحبّة.
نوح ومن معه .. بعد الطوفان.. استقروا على الأرض الجديدة أي بلوغ مقام الطمأنينة لسكينة، اليقين.
بعد مجاهدة النفس، وتجاوز الهوى، والفناء في الله.