سلام الله عليكم
في فناء الفندق المطل على الحرم،
كان المعتمرون إما نائمين على كراسيهم بعد سعي طويل، أو واقفين في صمت كأنهم يراجعون أنفسهم لا مناسكهم.
جلستُ أحتسي ماء زمزم
أسأل نفسي من أكون.
لكنني ما كدت أرفع رأسي حتى شعرت بظلّ ثقيل
عرفته من هيبته قبل هيئته
يمشي كأنه يحمل الفتوى في جيبه
وعلى وجهه نظرة من يرى الباطنية مرضًا يجب استئصاله
إنه هو
الشيخ الذى كرهني و ابغضتي ثم احبني و رافقني و صادقني في وقت واحد
صاحب المحاضرات النارية التي كان يصرخ فيها في مساجد مدينة جدة السعودية منذ سنين:
"احذروا الزنادقة الجدد!
يحملون المسبحة ويخفون السم في الابتسامة!
يركّبون على القرآن أذواقهم ويظنون أنفسهم أولياء!"
وكان يقصدني.
أخر مرة سنة 1995 قالها أمام الناس في ملتقى إسطنبول الصوفي دون أن يسمي، لكن الجميع التفت إليّ.
والآن... ها هو يجلس قُبالتي في فناء فندق بمكة، بعد طواف العمرة.
اقترب وجلس دون استئذان، وقال بنبرة مشحونة:
ـ السلام على من اتبع الهدى و كأنه يخاطب من خرج من الملة ثم واصل قائلا .. سبحان من يجمع المتناقضات… أن ألقاك هنا بعد أن قلت فيك ما قلت؟
أولم تتُب بعد عن تفسيرك الضال ؟
ابتسمت، فالقلب في حضرة مكة لا يسمح لي بالغضب:
رددت عليه بطلف ـ يا شيخي، الأرض لله… ونحن بين يديه…
فلا تجعل من تفسير الناس لك حجّةً عليهم
قال:
ـ بل التفسير الباطني حجة عليكم جميعًا
لو سكتّم لرحمكم الناس، لكنكم تتكلمون عن كتاب الله وكأنه ديوان شعر
صراط؟ تقول إنه داخل النفس؟!
هداية؟ تقول إنها انكسار؟!
والمغضوب عليهم؟ من تسمّيهم؟ من كتب الفتاوى أم من كتب الأشعار؟!
قلت:
ـ سأجيبك، لكن لا تنسَ أننا في مكة
فلا تصرخ… فالله يسمع الهمس
سكت قليلًا… ثم قال متحفزًا:
ـ هات… أرني ضلالك بنعومة
قلت:
ـ أما الصراط، فليس خطًا على الخريطة…
الصراط طريق يُبنى كل يوم في قلبك
كلما صدقت، ظهر…
كلما كذبت، اختفى
الذين أنعم الله عليهم ليسوا فقط الأنبياء في دفاتر التاريخ
بل كلّ من سار في الظلمة ولم يشك في النور
كلّ من أخطأ وبكى
كلّ من عرف الله لا من كتاب… بل من وجع
قال غاضبًا:
ـ هذه كلمات عاطفية لا تفيد فقيهًا ولا تبني عقيدة
قلت:
ـ بل هي من العقيدة نفسها
ألم يقل النبي: "استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك"؟
أليس القلب إذًا بابًا للفهم إن صلح؟
قال:
ـ لا مجال للقلوب إن ابتعدت عن ظاهر الكتاب
قلت:
ـ وهل المغضوب عليهم إلا من عبدوا الكتاب وتركوا صاحبه؟
من حفظوا الأوامر ونسوا الرحمة؟
من سلّحوا عقولهم بالآيات ليكسروا بها الناس لا ليهتدوا؟
المغضوب عليهم هم من تكبّروا بعلمهم
والضالون هم من مشوا دون نور، ظنًّا أن السير وحده يكفي
قال:
ـ وأنت تظن نفسك من المنعَم عليهم؟!
قلت:
ـ والله يا شيخ، إنّي أرجو فقط أن لا أكون من المحجوبين
أما النعمة؟ فهي أن تذوق الله مرةً… وتبكي أنك لست أهلًا لها
سكت… هذه المرة بصدق
لم يعد يبحث عن رد، بل عن فهم
نظرت إليه وقلت بهدوء:
ـ يا شيخ…
إنك قرأت الفاتحة آلاف المرات
لكن اسأل نفسك: هل قرأتها مرةً وأنت خائف أن تكون من الضالين حقًّا؟
لا لأنك لست يهوديًا أو نصرانيًا… بل لأنك لم ترَ نفسك في الميزان قط؟
نظر إليّ، ثم إلى الحرم البعيد، كأن الكعبة سألته سؤالًا أعجزه عن الإنكار
قمت من مكاني وقلت قبل أن أذهب:
ـ نحن لا نفسّر القرآن لنجادل
بل نؤوّله لننجو
فإن نفعك تفسيري… فبها
وإن لم ينفعك… فلا أقل من أن تسأل قلبك عنه قبل أن تنام
وتركتُه بين صوته القديم… وقلقه الجديد
وحين نظرت من بعيد
رأيته يفتح المصحف
ويقرأ الفاتحة
لكن هذه المرة... كان يهمس بها، لا يشرحها
مرّت ليلة على حوارنا في فناء الفندق كأنها عام.
لم أنم كثيرًا كعادتي.
كلما أغلقتُ عيني، سمعت صوت الشيخ الذى التقيته في تركيا يصرخ في ذهني، لا بما قاله لي… بل بما لم يقله.
لكن الفجر جاء، وتلاه الضحى، ثم الظهر، وحين اقترب العصر…
طرق الباب.
فتحت.
كان هو.
لكن ليس كالمعتاد.
لا عمامة مشدودة.
لا حواجب غاضبة.
ولا مسبحة تدور كما في ساحة معركة.
كان بثوبه الأبيض البسيط… كأنه جاء ليصلي، لا ليجادل.
قلت له ضاحكًا:
ـ أنظر من أتى! شيخنا شخصيا… ظاهرًا وباطنًا!
قال بخجل لم يُجيده بعد:
ـ السلام عليكم… أيمكنني الدخول؟
أعدك أنني جئت بقلبي لا بكتبي.
قلت مبتسمًا:
ـ من دخل بقلبه… فبابي وباب الله مفتوح له.
دخل وجلس بهدوء، ثم قال:
ـ البارحة حين قرأت الفاتحة بعد لقائنا…
لم أقرأها كعادتي… بل كأنها تخاطبني لا أخاطبها.
واسمح لي أن أطلب منك… تأويلا لا تفسيرًا.
قلت:
ـ ماذا تريد أن تفتح من الكتاب؟
قال بصوت خافت:
ـ افتح لي "والضحى والليل إذا سجى"
لكن لا تفسرها لي كما يُفسّرها المفسرون…
أريدك أن تكلمني بها كما كلمتني الفاتحة… كأنني لا أفهم، وكأنني أحتاج رحمة لا علمًا.
نظرت إليه…
فوجدت رجلًا لأول مرة…
لا شيخًا.
فبدأت.
قلت:
ـ "والضحى"…
هو النور الذي يأتي بعد وقت انتظار
هو وعد الله أن بعد كل حيرة ضوءًا
بعد كل سجدة لا تراها أعين الناس… طلعةٌ يراها قلبك
ـ "والليل إذا سجى"
هو القسم بالحُزن
بالوحدة
بالأوقات التي تختبئ فيها وتظن أن الله نسيك
لكن "سجى" ليست ظلمة عادية
إنها ظلمة تسكن
تهدأ
كأن الليل يُخبئ لك شيئًا… لا يعاقبك
ـ "ما ودعك ربك وما قلى"
هذه ليست آية، بل ضماد
هذه تقال حين تظن أن الله أغلق بابه في وجهك
فيأتيك الرد ليس من الأرض… بل من فوق سبع سموات:
"ما تركتك"
"وما أبغضتك"
حتى وإن سكتَ عنك الوحي، فإني لم أسكت عن حبّك
الشيخ ظل صامتًا…
عيناه تنظران للأسفل، كأن الكلام صار مرآة
تابعتُ:
ـ "وللآخرة خيرٌ لك من الأولى"
ليست الآخرة فقط بعد الموت
بل كل لحظة قادمة مع الله… خير من كل لحظة سبقتها دون يقين
كل ركعة بصدق… خير من ألف فتوى بغرور
كل دمعة خفية… خير من مجلس صُفّق لك فيه
ـ "ولسوف يعطيك ربك فترضى"
هذا وعد… وعدٌ للعُبّاد والتائبين والعاشقين
لن يعطيك فقط رزقًا…
سيعطيك فهمًا، وحالًا، وسلامًا… حتى ترضى
لا عن عطائه فقط
بل عنه هو
ثم نظرت إليه وسألته:
ـ هل وجدت نفسك هنا؟
هز رأسه…
وكأن كلمات خرجت من عينيه لا من فمه.
همس:
ـ كنت أظنني أحمل الله كمسؤولية…
وإذا بي أكتشف أنني لم أترك له فرصة أن يحملني
قلت له:
ـ لا بأس يا شيخ
كنا نظن أن المعرفة في الحفظ، فإذا بها في التسليم
كنا نظن أن الله لا يأتي إلا إذا بَكّرت له…
وإذا به أقرب لمن جاء متأخرًا، خجلًا، باكيًا
قال:
ـ ألا تخاف أن يكون هذا الكلام من زخرف القول؟
قلت:
ـ بل أخاف أن نموت ونحن نظن أن الله غضبان دومًا
أن لا نذوق يومًا كيف يحبّ
كيف يعفو
كيف ينتظرنا ونحن نظنه قد أغلق الباب
رفع بصره ونظر إليّ مطولًا، ثم قال:
ـ أتعِدني أن تفسر لي "الانشراح" بعد صلاة العشاء؟
ابتسمتُ وقلت:
ـ بل أعدك أن أفتح لك صدرك قبل أن نفتح السورة
وخرج…
لكنني كنت أعلم…
أنه هذه المرة، لم يخرج شيخًا.
بل خرج سائلًا.
وذاك… أول الصراط.
رأيته بعد صلاة العشاء في بهو الفندق
قال وهو قادم نحوي:
ـ البارحة لم أنم.
كلما أغمضتُ عيني، تذكّرت أنك قلت: "الفاتحة سفر"
ثم فتحت سورة الضحى فكانت مطارًا للرحمة…
واليوم، أشعر أن صدري ضيّق…
كأنني أخنق نفسي باسم الله.
قلت له بهدوء:
ـ إذن أنت مستعد.
قال:
ـ لما؟
قلت:
ـ للشرح…
الشرح الذي لا يُقرأ من تفسير
ولا يُستخرج من إعراب
بل الشرح الذي يُفتح… أو لا يُفتح.
جلس الشيخ. وقال: ابدأ انا اسمعك
قلت "ألم نشرح لك صدرك"
هذه ليست سؤالًا… إنها تذكير.
كأن الله يقول:
"كم مرة ضيّقتَ على نفسك، وفتحتُ لك؟"
"كم مرة حسبتَ أن الطريق مسدود… ثم تنفّست؟"
الشرح ليس مجرد علم، يا شيخ،
إنه اتساع القلب لقبول المجهول
أن تُوسّع داخلك حتى يتسع للغير
حتى تُصبح تُصلّي، لا لأنك أمرت… بل لأنك فُتِحت
قال بهمس:
ـ وهل الشرح يُنزع؟
أقصد… هل يُغلق الصدر بعد أن يُفتح؟
قلت:
ـ نعم، كلما غلبك وهمك، ضاق
كلما ظننت أنك وحدك على الحق، ضاق
كلما أردت أن تُصلح الناس قبل أن تُصلح نفسك… ضاق
وكلما بكيت لأنك لا تستحق النور… انفتح
ثم أكملت:
"ووضعنا عنك وزرك"
الوزر ليس فقط الذنب
بل الشعور أنك المسؤول عن كل شيء
أنك تحمي الله بدل أن يحميك
أنك تحفظ الدين بدل أن يدخلك الدين
"الذي أنقض ظهرك"
هو الهمّ الذي لم تُخبر به أحدًا
الذي حمَلك وأنت تُفتي
الذي صرخ فيك وأنت على المنبر
الذي قال لك في سرّك:
"أنت لا تفهم كل شيء… تظاهر فقط"
نظر إليّ الشيخ، ثم تنهد تنهدًا طويلًا…
ـ كم مرة قرأت هذه السورة ولم أشعر إلا أنها تتحدث عن النبي فقط، لا عني.
قلت:
ـ كل ما نزل له، فينا ظلّه
هو الأكمل… ونحن على الأثر
الشرح لنا
والوِزر لنا
والرفع لنا إن صدقنا
"ورفعنا لك ذكرك"
الذكر ليس الشهرة
ولا كثرة المتابعين
بل أن يُذكر اسمك في السماء… وأنت لا تدري
أن تُصبح صوتك دعاءً في فم فقير
أو سبب نجاة في قلب تائب
ثم نظرت إليه وقلت:
ـ والآن، يا شيخ… اسمع الختام
ـ تفضّل…
قلت:
"فإن مع العسر يسرا… إن مع العسر يسرا"
ليست مجرد بشرى…
بل تأكيد مضاعف على أن الضيق الذي تمرّ به لا يمكن أن يأتي وحده
فلو جاءك عُسر… جاء معه يسران
ولو ضاق صدرك… جاءك النور من حيث لا تحتسب
ولو سقطت في شكّك… جاءك اليقين، لا من الكتب، بل من داخلك
"فإذا فرغت فانصب"
أي: إذا فرغ قلبك من الناس، فانصب لله
إذا انتهيت من الكلام، فابدأ السُكوت
إذا فرغت من طلب العلم، فابدأ طلب الحكمة
"وإلى ربك فارغب"
لا إلى شهرتك
ولا فتاويك
ولا القنوات
ولا الزحام
بل ارغب إليه كما يرغب طفل في حضن أمّه بعد خوف
ارغَب كأنك غريق
ارغَب كأنك لا تعرف سواه
سكتُّ…
وبقي الشيخ ينظر إلى الأرض.
ثم قال بعد لحظة:
ـ الآن فهمت لماذا ضاق صدري وأنا أظن أنه مفتوح
أنا كنت أشرح للناس… ولم يُشرَح لي قلبي بعد
أنا قلت لهم ما قاله السلف… ونسيت أن أقول لهم ما قاله الله لي في وحدتي
قلت:
ـ لا بأس يا شيخ
أنت اليوم جئت… وهذا أول شرح
قام، نظر إليّ وقال:
ـ هل تظن أني تأخرت كثيرًا؟
قلت:
ـ لا، أبدًا.
الشرح لا يُفتح إلا حين يُوجعك صدرك بما فيه
وأنت وجعك البارحة… ففتحت اليوم
ثم ابتسمتُ قائلا:
ـ مرحبًا بك… في بداية الطريق.
عاد ثم جلس على الأرض، ووضع يده على صدره، وقال:
ـ اليوم… أريد أن لا أسمعك… بل أسمع نفسي من خلالك.
اختر أنت سورة اخرى… واجعلني أراها من الداخل.
قلت له:
ـ سنقرأ : "سورة الليل"
قال:
ـ الليل؟ ألم نخرج من الظلام؟ أم أنك تُعيدني إليه؟
قلت مبتسمًا:
ـ بل الليل هو الباب، لا الظلمة
الليل في باطنه هو ستر، هو حُضن
فإن عرفت كيف تدخل عليه، أدخلك الله على سره
أغمض عينيه…
فبدأتُ أنا أقرأ… وأؤوّل، لا بلساني، بل بروحي.
"والليل إذا يغشى"
أي حين يغطيك حال…
يغشى القلب لا العين
الليل هنا ليس الوقت، بل الحالة
هو الغفلة
هو التعب
هو الضعف الذي يلفّك كأن الله أراد أن تُطفئ كل شيء… حتى تراه وحده
إنه الحزن الذي لا يُكشَف لأحد
الليل الذي تمرّ فيه فلا تُجيد الدعاء
فيسكت الله كل الأصوات من حولك… ليبقى هو
"والنهار إذا تجلّى"
النهار ليس الشمس
النهار هو لحظة الفهم
لحظة تنقشع فيها الغشاوة من قلبك لا من سمائك
هو حين ترى أن ما كنت تظنه ابتلاء… كان هدية
وما كنت تظنه قطيعة… كان تقريـبًا
حين تتجلى لك الحكمة في خيبة
والنعمة في فقر
والقرب في البُعد
"وما خلق الذكر والأنثى"
الذكر والأنثى هنا ليسا فقط جنسًا
بل رمزان…
الفاعل والمفعول
المُرسل والمُتلقّي
النار والماء
الصحو والسُكر
فكما خلقك فيك العقل والرغبة
خلقك فيك النور والظل
فلا تتعجب من تقلبك
بل تعجّب أن الله يخلقك كل يوم… ويقبلك كل مرة
"إن سعيكم لشتّى"
كل سالكٍ له باب
فلا تعيّر أحدًا بطريقه
ولا تظن أن السُبل يجب أن تتشابه
واعلَم أن الله لا ينظر لشكل السعي… بل لحقيقته
ربّ راكعٌ في ظاهر معصية… وساجدٌ في قلبه
وربّ قائم في الطاعة… وقلبه في غفلة
كلٌّ يسعى… وأنت؟ إلى ماذا تسعى؟
"فأما من أعطى واتقى وصدّق بالحسنى"
من أعطى نفسه لله
من سلّم
من أنفق من أناه، لا من ماله
من قدّم كبرياءه قربانًا، وقال: "خذني كما أنا… فإني لا شيء إلا بك"
واتقى… أي ترك ما يُبعده، لا ما يُحرّم فقط
واتقى نفسه، لا فقط الخمر والحرام
وصدّق بالحُسنى…
صدّق أن النهاية خير
أن الله أحنّ مما ظنّ
أن الرحلة مؤلمة لكن المُضي فيها هو الخير، لا الرجوع
"فسنيسّره لليسرى"
أي نجعل الطريق ممهّدًا له
لا لأن الطريق سهل…
بل لأن قلبه صار يرضى بكل ما يأتي
فما عاد يشتكي
وصارت كل الطرق تؤدي إلى الله، حتى تلك التي تمرّ بالخسارة
"وأما من بخل واستغنى وكذّب بالحسنى"
من بخل بنفسه
من لم يسجد بقلبه
من ظن أنه يستطيع الوصول بدون انكسار
من حفظ الشريعة ونسي صاحبها
من كذّب بأن الله رحيم
من ظن أن العقوبة أسبق من الرحمة
من رأى في الله سلطانًا ولم يرَ فيه أمًّا
"فسنيسّره للعسرى"
العسرى ليست الفقر
بل العيش داخل نفسك، بلا نور
هي أن تظن أنك على الطريق… وأنت فقط واقف
أن تشرح الدين… ولا يشرح لك الله صدرك
"وما يغني عنه ماله إذا تردّى"
كل ما جمعته
من هيبة… علم… أتباع… مقالات…
لن يمنعك من السقوط إن لم يُمسَك قلبك به
و"تردّى" هنا ليس سقوطًا في الدنيا
بل سقوطٌ من عين نفسك
أن ترى أنك بلا شيء… بعد أن كنت تظن أنك كل شيء
"إن علينا للهدى"
ليست الهداية جهدك فقط
إنها هِبَة
فلا تغتر بعملك
فالله يهديك لا لأنك تستحق… بل لأنه يُحبّ أن يهدي
"وإن لنا للآخرة والأولى"
كل ما تراه وما لا تراه… له
فلا تعاند مَن يملك البداية والنهاية
سلّمه أمرك
فإنه إن أخذك… ردّك إليك أجمل
"فأنذرتكم نارًا تلظّى"
النار هنا ليست فقط نار الآخرة
بل نار البُعد
نار الحيرة
نار البقاء بلا حضور إلهي
نار الجفاف الروحي حين تُطفئ النور وتعيش في النص وحده
"لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذّب وتولّى"
من كذّب بالنور
من ظن أن الله بلا قلب
وتولّى… أي ترك يده حين مدّها له
تولّى عن الدموع، عن الخوف، عن التوبة
ظنًا أنه كامل… وهو مكسور ولا يدري
"وسيجنّبها الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكّى"
من زكّى نفسه، لا بتطهيرها من الذنب فقط
بل بإفراغها من "أنا"
وقال: كل ما عندي منك… خذني، فإني لا أملك شيئًا
"وما لأحد عنده من نعمة تُجزى"
لم يُصلّ ليراه الناس
لم يتصدق ليُمدح
لم يحجّ ليُقال "الشيخ"
بل لأنه يحبّ الله
"إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى"
هذا هو الدين
أن تعمل، لا لأن الجنة تنتظرك
بل لأن وجهه يُناديك
لأنك اشتقت، لا لأنك خِفت
"ولسوف يرضى"
ولسوف
ليس الآن… لكن قريب
يرضى ليس لأنه دخل الجنة… بل لأنه عرف الله
سكتُّ
نظرت إلى الشيخ، فإذا به يبكي دون صوت.
قال بعد لحظة:
ـ أنا… كنت أظن أني أعرف الله
لكن ما عرفته إلا حين نظرتُ إليه من قلبي… لا من مكتبتي
قلت:
ـ الآن بدأت الرحلة
مرحبا بك، من جديد.
نظر لي متحديا ما قولك في سب الله من فوق سبع سموات لابي لهب ؟
قلت له:
ـ إذًا افتح قلبك قبل المصحف
لأن سورة "تَبّت" لا تقرأ بالعقل… بل تُكشَف بالمرآة ..
"تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ"
هذا هو الانهيار الأول.
"تبت يداه" لا تعني فقط الهلاك، بل تعني: سقط عمله، ضاعت خطته، فسد سعيه.
وأبو لهب هنا، في التأويل الباطني، هو صورة النفس المتألهة
هو الجزء فيك الذي يريد أن يكون مركز الكون
الذي يتكلم لا ليسمع، بل ليُعجَب بنفسه
الذي يرفض النور إن لم يأتِ من جهته
وتبت يداه… أي تكسرت كل أدواته، كل ما اعتمد عليه ليحمي نفسه من الحقيقة.
"مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ"
المال هنا رمزيّ
قد يكون علمًا… جاهًا… أتباعًا… سمعةً
كل ما ظنه "درعًا" ضدّ الهزيمة… لم يُغنه حين واجه النور الإلهي
و"ما كسب" هو ما جمعه من الذات الكاذبة
من الأنا المتضخمة
من صورة نفسه التي رسمها للناس، حتى نسي وجهه الحقيقي
فسقط كل ذلك… كبيتٍ من ورق
"سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ"
ليست نار جهنم فقط
بل نار الكِبر
نار العناد
نار أن ترى النور أمامك… وتُكذّبه لأنه لم يأتِ من عقلك
"ذات لهب"… لأن الكِبر لا يحرق بهدوء
بل يُحرق صاحبه بضجيج وصراخ داخلي
أن ترى النور وتُعرض عنه… فذلك أعظم عذاب
أبو لهب فينا… هو الذي يرفض أن يُكسر
الذي يكره أن يسجد قلبه
الذي يقول: "أنا أعلم، أنا أفهم، أنا فوق"
فهذا يصلى نارًا… لا لأن الله يُعذّبه
بل لأن كبره أشعل فيه نارًا لا تنطفئ
"وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ"
ليست فقط زوجته التاريخية
بل هي الرمز الآخر:
الرغبة التي تغذّي الكِبر
الشهوة التي تجمع الحطب كل يوم لتزيد النار اشتعالًا
في التأويل الباطني، المرأة هنا هي القوة الداخلية التي تحمل الوقود للنفس المتعالية
تحمل "النيات الفاسدة"
تحمل "المقارنات"
تحمل "الأحقاد الصغيرة"
وتُلقي بها في نار الأنا كلّ يوم
هي التي تقول: "لا تَخضع، لا تَسجد، لا تعترف، لا تضعف… كن كما أنت، كبيرًا، ظاهرًا، فوق الناس."
"فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ"
في عنقها… حبل
لكن ليس من حديد، بل من مسد
و"المسد" في لغة أهل الباطن: ما ظُنّ أنه زينة، فصار قيدًا.
قيد الشهوة
قيد الرغبة في السيطرة
قيد الحرص على أن تُرى، وتُمدَح، وتُخاف
الحبل هنا رمزي:
هو كل ما ربط قلبها بالدنيا حتى خنقها
فهي تمشي تظن أنها حرة
لكنها مربوطة بحبلٍ نسجته بيدها
واختنقت به عنقها الذي ظنّته عِقدًا
سكتُّ…
ونظرت إلى الشيخ ابو عبد االله.
كان هذه المرة لا يبكي
بل يضع يده على صدره كمن اكتشف "أبا لهب" الذي فيه.
قال بعد لحظة:
ـ أنا قرأت هذه السورة سنوات كأنها إهانة لعدوّ
لكن اليوم… كأن الله قال لي:
"هذا أنت… حين ترى نفسك فوق… وتنسى أنني أنا النور، لا أنت."
قلت له:
ـ لهذا سُميت "تبت"
فهي ليست "لعنة على غيرك"… بل فرصة لتُتبّت نفسك
أن تُسقط عنها الأوهام
أن تنجو من اللهب… لا بجَهدك، بل بانكسارك
ثم أضفت:
ـ يا شيخ…
في كل واحدٍ منّا أبو لهب صغير
يكبر إذا سكتّ له
ويضعف إذا قلت: "يا رب، اكسِرني بلُطفك قبل أن تحرقني بعدلك."
ابتسم الشيخ… وقال:
ـ أظن أني الآن… بدأت أرى النار في وجهي، لا في غيري
فقلت:
ـ وهل النجاة إلا أن ترى الحريق قبل أن يصل؟
في اليوم الموالي في ركن بعيد من ساحة الحرم بعد صلاة الفجر ..
جلس الشيخ "أبو عبد الله " في المكان الذى يجلسه فيه دائما متأمّلًا
بعد أن سال دمعه بين الركنين
لم يكن اليوم مشغولًا بالفتوى
بل مشغولًا بـ… "هو"
اقتربت منه بهدوء، وجلست قربه
قال دون أن ينظر:
ـ هذه أول مرة أطوف… ولا أدعو بشيء
كنت فقط أقول: "خذني إليك، كما أنت."
قلت له:
ـ أنت اليوم وصلت إلى باب "الإخلاص"
فهل تود أن نفتحه معًا؟
قال:
ـ نعم… لكن دون شروح
قلها لي كما لو أنك تقولها ليتيم فقد وجه الله
فأخذت نفسًا… ثم بدأت
"قل هو الله أحد"
قل… لا تشرح
قل… لا تحفظ
قل… كأنك تُخبر قلبك المنكسر:
"لا، لست وحدك… هو الله، وهو أحد، وهو معك."
"هو"… لا يُشار إليه باسم
ولا يُحاط بحد
هو، كما هو
لا كما تتخيله
ولا كما قرأته
ولا كما أراده الناس أن يكون
"أحد"…
أي لا ثاني له
ولا شريك له
ولا مِثْل له
ولا وَصفٌ يُدركه
ولا اسمٌ يكفيه
ولا قلبٌ يحيط به
"أحد"… يعني أنك مهما أحببت، مهما توسلت، مهما تهت…
لن تجد في هذا الوجود وجهًا يستحق السجود… إلا هو.
"الله الصمد"
الصمد؟
ليس فقط الذي تُصمد إليه
بل الذي لا يحتاج أحدًا…
لكن الجميع يحتاجه
هو الذي لا يجفّ
ولا يغيب
ولا يُخطئ
ولا يتأخر
الصمد… هو الذي لا يقول لك "ارجع غدًا"
هو الذي لا يضعك في طابور
هو الذي يعلم ما لم تقله
ويفهم ما لم تفهمه أنت من نفسك
قال الشيخ "أبو عبد الله " وهو يهمس:
ـ أنا قضيت عمري أُجيب الناس عن الله…
ونسيت أن أعود وأسأله عن نفسي
قلت له:
ـ كلنا كنا نظن أن الطريق بالعلم فقط
لكن بعض الأبواب لا تُفتح إلا بـ"الخجل"
"لم يلد ولم يولد"
هذا نفي للتسلسل
نفي للمادة
نفي لأن تتخيله على صورتك
هو ليس صدى شيء
ولا نتيجة شيء
هو الوجود الذي لا يسبقه بداية، ولا يلحقه نهاية
هو الأول بلا أول
والآخر بلا آخر
هو ليس أبًا ولا ابنًا
هو ربّ القرب، لا القرابة
هو لا يحتاج أن يلد، لأنه لا يحتاج أحدًا ليكون.
"ولم يكن له كفؤًا أحد"
لا شبيه
لا معادل
لا منافس
لا ندّ
الله ليس مثل حكّام الأرض
ولا مثل صور الآباء في ذهننا
الله لا يغضب مثلنا
ولا ينتقم مثلنا
ولا يُرضى عليه برشوة عباداتنا
الله لا يُشبه شيء
فلا تُعامله كما تعامل البشر
ولا تظن أن دمعتك تُربكه، أو ذنبك يُبعِده
هو الله
لا كفؤ له
ولا حبيب أحنّ منه
ولا ربّ سواه
ثم التفتّ إلى الشيخ ابو عبد الله وقلت:
ـ قل لي الآن يا شيخ… ما فهمتَ من الإخلاص؟
سكت طويلاً…
ثم قال:
ـ الإخلاص؟
أن أترك كل الوجوه… لأرى وجهه
أن أترك التكلّف… لأبكي بصدق
أن أترك اجتهادي… وأدخل برحمته
ثم وضع يده على صدره وقال:
ـ لأول مرة أفهم لماذا قالوا: "ثلث القرآن"
لأنني حين قرأتها بهذا الذوق…
كأنني قرأت القرآن الذي داخلي.
ثم قمنا
ولم نتكلم كثيرًا
لأن التوحيد حين يَظهر…
يسكت كل شيء.
التقيت بالشيخ في فناء الفندق بعد الافطار .. أبو عبد الله كان أول من بدأ هذه المرة:
ــ يا شيخ…
منذ رأيتك في ملتقى تركيا، وأنا أظنك على طريق مظلم
لكن بعد هذا اللقاء، والله… أنا الذي كنت في ظلمة الحرف دون المعنى
كأنني طوال حياتي أعبد ما حفظت… لا ما عرفت
ابتسمت له وقلت:
ــ شيخنا أبو عبد الله…
القرآن كتاب لا يُقرأ… بل يُنظَر من خلاله
أنت كنت تُدرّس النور، لكن عيناك لم تكن مفتوحة
قال وهو يهز رأسه:
ــ كل مرة أقول: "قل هو الله أحد"
كنت أشرحها للناس كأنني أعرف الله أكثر من قلوبهم
لكنني اليوم…
حين سمعتك تؤوّلها كطفلٍ يبحث عن أمّه…
عرفت أن التوحيد ليس أن تقول "لا إله إلا الله"
بل أن لا يبقى في قلبك إلهٌ سواها.
فقلتَ له:
ــ يا أبا عبد الله…
الظاهر ليس خطأ، بل هو الباب
لكن الويل لمن وقف عند الباب ولم يدخل
التفسير علم
لكن التأويل حياة
قال:
ــ صدقت، والله صدقت…
كل تفسيري لسورة الإخلاص، كان دروعًا ليحفظ الناس معتقدهم
لكنك أتيت لا لتحفظهم… بل لتُذيبهم في الحب
ضحكتَ، لا سخرية، بل رحمة
وقلت:
ــ نحن لسنا هنا لنكسر أحدًا
نحن هنا لندلّ على الوجه الذي لا يُرى بالحرف، بل بالحرق
كلما احترق قلبك شوقًا، ظهر لك الله في كل شيء…
حتى في آية صغيرة مثل: "الله الصمد"
أبو عبد الله انحنى قليلًا
وقال:
ــ يا شيخ…
أقسم أنني دخلت هذا اللقاء لأنقض عليك
لكنني خرجت بأنقض كل ما بنيته من "أنا" و"علمي" و"منهجي"
أمسكتَ يده بلطف، وقلت:
ــ هذا هو أول درس في التوحيد:
أن تُسقط كل الأصنام
حتى لو كانت على شكل كتبٍ ومقالات وألقاب
قال أبو عبد الله بصوت هادئ:
ــ وأنا كنت نائمًا طويلًا…
فقلت:
ــ الآن فقط… استيقظنا سويًا.