بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمدا كثيرا كما ينبغي لجلال وجهه ولعظيم سلطانه
وأصل علي من بشر وانذر وبلغ الرساله وأد الامانه علي الوجه الاكمل وآله وصحبه وسلم
مقتطفات من سيرة الإمام عبد الله بن المبارك
قال الذهبي في التذكرة :
عبد الله بن المبارك بن واضح الحافظ العلامة شيخ الإسلام فخر المجاهدين قدوة الزاهدين أبو عبد الرحمن الحنظلي مولاهم المروزي التركي الأب الخوارزمي الام التاجر السفار صاحب التصانيف النافعة والرحلات الشاسعة: ولد سنة ثماني عشرة ومائة أو بعدها بعام وأفنى عمره في الأسفار حاجًا ومجاهدًا وتاجرًا، سمع سليمان التيمي وعاصم الأحول وحميد الطويل والربيع بن أنس وهشام بن عروة والجريري وإسماعيل بن أبي خالد وخالد الحذاء وبريد بن عبد الله بن أبي بردة وأممًا سواهم حتى كتب عمن هو أصغر منه دوّن العلم في الأبواب والفقه وفي الغزو والزهد والرقائق وغير ذلك.
حدث عنه خلق لا يحصون من أهل الأقاليم فإنه من صباه ما فتر عن السفر. منهم عبد الرحمن بن مهدى ويحيى بن معين وحبان بن موسى وأبو بكر بن أبي شيبة وأخو عثمان وأحمد بن منيع وأحمد بن جميل المروزي والحسن بن عيسى بن ماسرجس والحسين بن الحسن المروزي والحسن بن عرفة. ووقع لي حديثه من غير وجه عاليًا. وبالإجازة بيني وبينه ستة أنفس والله إني لأحبه في الله وأرجوا الخير بحبه لما أمنحه الله من التقوى والعبادة والإخلاص والجهاد وسعة العلم والإتقان والمواساة والفتوة والصفات الحميدة.
روى العباس بن مصعب في تاريخه عن إبراهيم بن إسحاق عن ابن المبارك قال حملت عن أربعة آلاف شيخ فرويت عن ألف منهم. ثم قال العباس: وقع لي من شيوخه ثمان مائة.
من هو والد ابن المبارك؟
كان مبارك والد صاحبنا هذه الليلة، والد عبد الله حارساً على بستان، يحرس الرمان والتفاح والليمون أن يعتدي عليه سراق أو لصوص بأجرة بسيطة، فكان يبدأ من الصباح في عمله، وكان يتخلل عمله بركعات يركعها في البستان، ولا يفتر لسانه من ذكر الله عز وجل، فإذا استلم راتبه من سيده تصدق بثلث الراتب، وأنفق عليه وعلى أهله ثلثه وخزن ثلثه، لما سوف يعرض له.
دخل سيده ومعه ضيف يزور البستان، قال: يا مبارك ! ائتنا برمان، فأتى برمان حامض، ووضعه بين يديه، قال: هذا حامض، ائتنا بغيره، فأتى برمان حامض، قال: أنت لا تفهم ولا تعي؟ هذا حامض، قال: والله لا أعرف الحامض من الحلو، قال: أما ذقته وأنت في البستان من كذا وكذا سنة؟ قال مبارك : أنت لم تأذن لي أن أذوق ما في البستان.
ثناء العلماء عليه :
قال ابن مهدى: الأئمة أربعة: مالك والثوري وحماد بن زيد وابن المبارك وقد فضله ابن مهدى أيضا على الثوري وقال مرة حدثنا ابن المبارك وكان نسيج وحده. قال أحمد بن حنبل لم يكن في زمان ابن المبارك أطلب للعلم منه وعن شعيب بن حرب قال ما لقي ابن المبارك مثل نفسه. وقال شعبة: ما قدم علينا مثل ابن المبارك. وقال أبو إسحاق الفزاري: ابن المبارك إمام المسلمين. وقال ابن معين: كان ثقة متثبتًا وكانت كتبه التي حدث بها نحوًا من عشرين ألف حديث. قال يحيى بن آدم: كنت إذا طلبت الدقيق من المسائل فلم أجده في كتب ابن المبارك أيست منه.
وعن إسماعيل بن عياش قال: ما على وجه الأرض مثل ابن المبارك قال عباس بن مصعب: جمع ابن المبارك الحديث والفقه والعربية وأيام الناس والشجاعة والسخاء ومحبة الفرق له. قال أبو أسامة ما رأيت رجلا أطلب للعلم في الآفاق من ابن المبارك. وقال شعيب بن حرب: لو جهدت جهدي أن أكون في السنة ثلاثة أيام على ما عليه ابن المبارك لم أقدر. وقال أبو أسامة: هو أمير المؤمنين في الحديث. قال الحسن بن عيسى بن ماسرجس: اجتمع جماعة من أصحاب ابن المبارك فقالوا: عدو خصال ابن المبارك فقالوا: جمع العلم والفقه والأدب والنحو واللغة والزهد والشجاعة والشعر والفصاحة وقيام الليل والعبادة والحج والغزو والفروسية وترك الكلام فيما لا يعنيه والإنصاف وقلة الخلاف على أصحابه.
وعن ابن معين وذكر عنده ابن المبارك فقال: سيد من سادات المسلمين. وقال محمد بن عين سمعت الفضيل يقول: ورب هذا البيت ما رأت عيناي مثل ابن المبارك .
وعن بشر بن السري قال ابن مهدى: ابن المبارك آدب عندنا من الثوري. عثمان الدارمي ثنا نعيم بن حماد قال ما رأيت أعقل من ابن المبارك ولا أكثر اجتهادا منه. قال عبد الله بن سنان قدم ابن المبارك مكة وأنا بها فلما خرج شيعه سفيان بن عيينة والفضيل بن عياض وودّعاه فقال أحدهما هذا فقيه أهل المشرق فقال الآخر وفقيه أهل المغرب. قال عبدان بن عثمان ذكر عبد الله الأعمش وما يلقى الناس منه ثم قال لكن إسماعيل بن أبي خالد أتيته لأودّعه وحوله ناس فقال لي أقوم إليك.
عن حاتم الجوهري قال: حدثنا أسود بن سالم قال: كان ابن المبارك إماماً يقتدى به ، كان من أثبت الناس في السنة ، إذا رأيت رجلاً يغمز ابن المبارك بشيء فاتهمه على الإسلام.
محمود بن والان: سمعت محمد بن موسى، سمعت إبراهيم بن موسى يقول: كنت عند يحيى بن معين، فجاءه رجل، فقال: من أثبت في معمر ؟ ابن المبارك أو عبد الرزاق ؟ وكان يحيى متكئا فجلس، وقال: كان ابن المبارك خيرا من عبد الرزاق ومن أهل قريته، [ كان ] عبد الله سيدا من سادات المسملين .
عبارات ومواقف :
عبادته وخشيته لله تعالى لنرى فيه مصداق قوله تعالى: إنما يخشى الله من عباده العلماء وهذا هو العلم النافع، الذي يقود إلى خشية الله تعالى، ورحم الله ابن مسعود إذ يقول: كفى بخشية الله علما، وكفى بالاغترار بالله جهلا.
وقال القاسم بن محمد: كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيرا ما كان يخطر ببالي فأقول في نفسي: بأي شيء فضل علينا هذا الرجل حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة، إن كان يصلي إنا لنصلي، ولئن كان يصوم إنا لنصوم، وإن كان يغزو فإنا لنغزو، وإن كان يحج إنا لنحج، قال: فكنا في بعض مسيرنا في طريق الشام نتعشى في بيت إذ طفيء السراج، فقام بعضنا فأخذ السراج وأخذ يبحث عما يوقد به المصباح، فمكث هنيهة، ثم جاء بالسراج فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته قد ابتلت من الدموع فقلت في نفسي: بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا، ولعله حين فقد السراج فصار إلى الظلمة ذكر القيامة.
وقال سويد بن سعيد: رأيت ابن المبارك بمكة أتى زمزم فاستقى شربة ثم استقبل القبلة فقال: اللهم إن ابن أبي المنوال حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي أنه قال: ((ماء زمزم لما شرب له)) وهذا أشربه لعطش يوم القيامة.
وقال نعيم بن حماد: قال رجل لابن المبارك: قرأت البارحة القرآن في ركعة، فقال: لكني أعرف رجلا لم يزل البارحة يكرر: ((ألهاكم التكاثر)) إلى الصبح ما قدر أن يتجاوزها، يعني نفسه.
وقال نعيم أيضا: كان ابن المبارك يكثر الجلوس في بيته فقيل له: ألا تستوحش، فقال: كيف أستوحش وأنا مع النبي وأصحابه.
وقال شقيق البلخي: قيل لابن المبارك: إذا أنت صليت لم لا تجلس معنا، قال: أجلس مع الصحابة والتابعين وأنظر في كتبهم وآثارهم فما أصنع معكم؟ أنتم تغتابون الناس.
ويروى عنه رحمه الله أنه قال:
اغتنم ركعتين زلفـى إلى الله إذا كنت فـارغـا مستـريحـا
وإذا ما هممت بالنطق بالباطل فاجعل مكـانـه تسـبيـحــا
فاغتنام السكوت أفضـل من خوض وإن كنت بالكلام فصيحا
ولذا قال نعيم: ما أريت أعقل من ابن المبارك ولا أكثر اجتهادا في العبادة منه.
ومن كلامه رحمه الله: إن البصراء لا يأمنون من أربع: ذنب قد مضى لا يدري ما يصنع فيه الرب عز وجل، وعمر قد بقي لا يدري ما فيه من الهلكة، وفضلٍ قد أعطي العبد لعله مكر واستدراج وضلالة قد زينت يراها هدى، وزيغ قلب ساعة فقد يسلب المرء دينه ولا يشعر.
سمع بعضهم ابن المبارك وهو ينشد على سور طرسوس:
ومن البلاء وللبلاء علامة - أن لا يرى لك عن هواك نزوح
العبد عبد النفس في شهواتها - والحـر يشبـع مـرة ويجـوع
وقال الخليل أبو محمد: كان عبد الله بن المبارك إذا خرج إلى مكة قال:
بغض الحياء وخوف الله أخرجني - وبيع نفسي بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله - ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
قال نعيم بن حماد: كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقاق، يصير كأنه ثور منحور، أو بقرة منحورة من البكاء، لا يجتري أحد منا أن يسأله عن شيء.
وكان رحمه الله مستجاب الدعوة، قال العباس بن مصعب حدثني بعض أصحابنا قال:
سمعت أبا وهب يقول: مر ابن المبارك برجل أعمى، فقال هل: أسألك أن تدعو لي أن يرد الله علي بصري، فدعا له، فرد عليه بصره وأنا أنظر.
وقال عبيدة بن سليمان المروزي: كنا سرية مع ابن المبارك في بلاد الروم فصاففنا العدو، فلما التقى الصفان، خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز، فخرج إليه رجل فبارزه ساعة فطعنه فقتله، فازدحم إليه الناس، فنظرت فإذا هو عبد الله بن المبارك، وإذا هو يكتم وجهه بكمه، فأخذت بطرف كمه فمددته فإذا هو، فقال: وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا!!
وقال عبد الله بن سنان: كنت مع ابن المبارك ومعتمر بن سليمان بطرسوس فصاح الناس: النفير، فخرج ابن المبارك والناس، فلما اصطف الجمعان، خرج رومي، فطلب البراز، فخرج إليه رجل، فشد العلج عليه فقتله، حتى قتل ستة من المسلمين وجعل يتبختر بين الصفين يطلب المبارزة ولا يخرج إليه أحد، فالتفت إلي ابن المبارك فقال: يا فلان، إن قتلت فافعل كذا وكذا، ثم حرك دابته وبرز للعلج معالجه ساعة فقتل العلج وطلب المبارزة، فبرز له علج آخر فقتله، حتى قتل ستة علوج وطلب البراز، فكأنهم كاعوا عنه، أي جبنوا وتهربوا فضرب دابته وطرد بين الصفين، ثم غاب، فلم نشعر بشيء، فإذا أنا به في الموضع الذي كان، فقال لي: يا عبد الله لا تحدث بهذا أحداً وأنا حي فذكره عبد الله بعد موته.
وقال محمد بن الفضيل بن عياش: رأيت ابن المبارك في النوم، فقلت: أي العمل أفضل؟ قال: الأمر الذي كنت فيه، قلت: الرباط والجهاد؟ قال: نعم، قلت: فما صنع بك ربك؟ قال: غفر لي مغفرة ما بعدها مغفرة.
قال عبدان: قال ابن المبارك: إذا غلبت محاسن الرجل لم تذكروا المساوي وإذا غلبت المساوي على المحاسن لم تذكر المحاسن.
نعيم بن حماد سمعت عبد الله يقول قال لي أبي إني لئن وجدت كتبك حرقتها, فقلت: وما علي؟ هو في صدري.
وعن علي بن الحسن بن شقيق قمت مع ابن المبارك ليلة باردة ليخرج من المسجد فذاكرني عند الباب بحديث وذاكرته فما زال يذاكرني حتى جاء المؤذن فأذن للفجر.
وعن أحمد بن أبي الحواري قال: جاء رجل من بني هاشم ليسمع من ابن المبارك فامتنع فقال الهاشمي لغلامه قم بنا فلما أراد الركوب جاء ابن المبارك ليمسك بركابه فقال يا أبا عبد الرحمن لا ترى أن تحدثني وتمسك بركابي قال رأيت أن أذلّ لك بذلي ولا أذلّ لك الحديث.
وقال نعيم بن حماد: كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الزهد كأنه ثور قد ذبح لا يقدر أن يتكلم.
عن عثمان بن سعيد الدارمي قال: سمعت نعيم بن حماد يقول: كان ابن المبارك إذا قرا كتاب (الرقاق) يصير كأنه ثور منحور أو بقرة منحورة من البكاء ، لا يجترئ أحد منا أن يدنو منه أو يسأله عن شيء إلا دفعه.
قال أبو وهب المروزي سألت ابن المبارك عن الكبر قال: أن تزدري الناس، وسألته عن العجب فقال: أن ترى أن عندك شيئا ليس عند غيرك
عن عثمان بن سعيد قال سمعت نعيم بن حماد يقول كان عبد الله بن المبارك يكثر الجلوس في بيته ، فقيل له : ألا تستوحش ؟ فقال : كيف أستوحش وأنا مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟!
عن إسماعيل بن علي بن إسماعيل قال: بلغني عن ابن المبارك أنه حضر عند حماد بن زيد مسلماً عليه فقال أصحاب الحديث لحماد بن زيد : يا أبا إسماعيل تسأل أبا عبد الرحمن أن يحدثنا ، فقال : يا أبا عبد الرحمن تحدثهم فإنهم قد سألونى ، قال : سبحان الله ! يا أبا إسماعيل أحدث وأنت حاضر ؟! قال فقال : أقسمت لتفعلن أو نحوه ، قال : فقال ابن المبارك : خذوا ، حدثنا أبو إسماعيل حماد بن زيد فما حدث بحرف إلا عن حماد بن زيد.
عن شعيب بن شعبة المصيصي قال: قدم هارون الرشيد أمير المؤمنين الرقة فانجفل الناس خلف عبد الله بن المبارك وتقطعت النعال وارتفعت الغبرة فأشرفت أم ولد لأمير المؤمنين من برج من قصر الخشب فلما رأت الناس قالت : ما هذا ؟ قالوا : عالم من أهل خراسان قدم الرقة يقال له عبد الله بن المبارك ، فقالت : هذا والله الملك ، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشُرَطٍ وأعوان.
عن محمود بن والان قال: سمعت عمار بن الحسن يمدح ابن المبارك ويقول:
إذا سار عبد الله من مرو ليلة*****فقد سار منها نورها وجمالها
إذا ذكر الأحبار في كل بلدة*******فهم أنجم فيها وأنت هلالها
عن وهب بن زمعة حدثنا معاذ بن خالد قال تعرفت إلى إسماعيل بن عياش بعبد الله بن المبارك ، قال : فقال إسماعيل بن عياش : ما على وجه الأرض مثل عبد الله بن المبارك ولا أعلم أن الله خلق خصلة من خصال الخير إلا وقد جعلها في عبد الله بن المبارك، ولقد حدثني أصحابي أنهم صحبوه من مصر إلى مكة فكان يطعمهم الخبيص وهو الدهرَ صائم.
عن محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال: سمعت أبي قال: بلغنا انه [يعني ابن المبارك] قال للفضيل بن عياض: لولاك وأصحابك ما اتجرت، قال أبي: وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مئة ألف درهم.
عن سلمة بن سليمان قال جاء رجل إلى عبد الله بن المبارك فسأله أن يقضى ديناً عليه فكتب له إلى وكيل له فلما ورد عليه الكتاب قال له الوكيل: كم الدين الذي سألت فيه عبد الله أن يقضيه عنك؟ قال: سبعمئة درهم فكتب إلى عبد الله: إن هذا الرجل سألك ان تقضى عنه سبعمئة درهم وكتبت له سبعة آلاف درهم وقد فنيت الغلات فكتب إليه عبد الله: إن كانت الغلات قد فنيت فإن العمر أيضاً قد فني فأَجِزْ له ما سبق به قلمي.
عن محمد بن عيسى قال: كان عبد الله بن المبارك كثير الاختلاف إلى طرسوس وكان ينزل الرقة في خان ، فكان شاب يختلف إليه ويقوم بحوائجه ويسمع منه الحديث ، قال: فقدم عبد الله الرقة مرة فلم ير ذلك الشاب وكان مستعجلاً فخرج في النفير فلما قفل من غزوته ورجع [إلى] الرقه سأل عن الشاب قال: فقالوا: إنه محبوس لدين ركبه ، فقال عبد الله: وكم مبلغ دينه؟ فقالوا: عشرة آلاف درهم ، فلم يزل يستقصي حتى دُلَّ على صاحب المال فدعا به ليلاً ووزن له عشرة آلاف درهم وحلَّفه أن لا يخبر أحداً ما دام عبد الله حياً ، وقال: إذا أصبحت فأَخرج الرجل من الحبس ، وأدلج عبد الله ، فاخرج الفتى من الحبس ، وقيل له : عبد الله بن المبارك كان هاهنا وكان يذكرك وقد خرج ، فخرج الفتى في أثره فلحقه على مرحلتين أو ثلاث من الرقة ، فقال يا فتى أين كنت ؟! لم أرك في الخان ! قال : نعم يا أبا عبد الرحمن ، كنت محبوساً بدين ، قال : فكيف كان سبب خلاصك ؟ قال : جاء رجل فقضى ديني ولم أعلم له حتى أخرجت من الحبس ؛ فقال له عبد الله : يا فتى احمد الله على ما وفق لك من قضاء دينك ، فلم يخبر ذلك الرجل أحداً إلا بعد موت عبد الله.
عن علي بن الفضيل قال: سمعت أبي وهو يقول لابن المبارك: أنت تأمرنا بالزهد والتقلل والبلغة ونراك تأتي بالبضائع من بلاد خراسان إلى البلد الحرام كيف ذا؟! فقال ابن المبارك: يا أبا علي إنما أفعل ذا لأصون به وجهي وأكرم به عرضي وأستعين به على طاعة ربي ، لا أرى لله حقاً إلا سارعت إليه حتى أقوم به ، فقال له الفضيل: يا ابن المبارك ما أحسن ذا ، إن تم ذا.
عن حبان بن موسى قال: عوتب ابن المبارك فيما يفرق المال في البلدان ولا يفعل في أهل بلده قال : إني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق طلبوا الحديث فأحسنوا الطلب للحديث ، بحاجة الناس إليهم احتاجوا ، فان تركناهم ضاع علمهم ، وإن أعناهم بثوا العلم لأمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ولا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم.
عن ابن مهدي قال : ما رأيت رجلاً أعلم بالحديث من سفيان الثوري ولا أحسن عقلاً من مالك ولا أقشف من شعبة ولا أنصح لهذه الأمة من عبد الله بن المبارك.
عن نعيم بن حماد قال: سمعت عبد الله بن المبارك قال : قال لي أبي: لئن وجدت كتبك لأحرقنها ، قال : فقلت له : وما علي من ذلك وهو في صدري؟!
عن سويد بن سعيد قال: رأيت عبد الله بن المبارك بمكة أتى زمزم فاستقى منه شربة ، ثم استقبل الكعبة ثم قال : اللهم إن ابن أبي الموال حدثنا عن محمد بن المنكدر عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : ماء زمزم لما شرب له وهذا أشربه لعطش القيامة ثم شربه.
عن أبي حسان البصري عيسى بن عبد الله قال: سمعت الحسن بن عرفة يقول: قال لي ابن المبارك: استعرت قلماً بأرض الشام فذهب عليَّ أن أرده إلى صاحبه فلما قدمت مرو ونظرت فإذا هو معي فرجعت --- إلى أرض الشام حتى رددته على صاحبه.
في سيرة ابن المبارك دروس عظيمة للتجار وأصحاب الأموال.
أولها: النية الصالحة في طلب المال، فقد كان ابن المبارك ينوي بتجارته الإنفاق على المساكين والإنفاق على إخوانه، والقيام بحاجات أهل العلم ليتفرغوا لبث علمهم في الناس.
قال الذهبي رحمه الله: بلغنا أنه قال للفضيل: لولاك وأصحابك ما اتجرت.
وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم.
وقال حبان بن موسى: عوتب إن المبارك فيما يفرق من المال في البلدان دون بلده قال: إني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق، طلبوا الحديث فأحسنوا طلبه، لحاجة الناس إليهم احتاجوا، فإن تركناهم ضاع علمهم، وإن أعناهم بثوا العلم لأمة محمد ، لا أعلم بعد النبوة أفض من بث العلم.
فنأخذ من هذا وهو السخاء، فكان ينفق بسخاء ولا يتعلق قلبه بالمال، بل يقضي به حاجات المكروبين ودين المدينين، جاءه رجل فسأله أن يقضي دينا عليه، فكتب إلى وكيل له، فلما رد على الكتاب، قال له الوكيل: كم الدين الذي سألته قضاءه، قال: سبع مائة درهم، وإذا عبد الله قد كتب له أن يعطيه سبعة آلاف درهم فراجعه الوكيل وقال: إن الغلات قد فنيت، فكتب إليه عبد الله: إن كان الغلات قد فنيت فإن العمر أيضا قد فني، فأجز له ما سبق به قلمي.
وكان متفقداً لإخوانه وتلاميذه يكثر النفقة عليهم، وضرب المثل في الإخلاص في تفقد حوائجهم ومشاكلهم، قال محمد بن عيسى: كان ابن المبارك كثير الاختلاف إلى طرسوس، وكان ينزل الرقة في خان، فكان شاب يختلف إليه، ويقول بحوائجه، ويسمع منه الحديث فقدم عبد الله مرة فلم يره، فخرج في النفير مستعجلا، فلما رجع سأل عن الشاب، فقيل: محبوس على عشرة آلاف درهم، فاستدل على الغريم، ووزن له عشرة آلاف، وحلّفه ألا يخبر أحدا ما عاش، فأخرج الرجل.
وسار ابن المبارك، فلحقه الفتى على مرحلتين من الرقة، فقال له: يا فتى أين كنت، لم أرك؟ قال: يا كنت محبوسا بدين، قال: وكيف خلصت قال: جاء رجل فقضى ديني ولم أدر، قال: فاحمد الله، ولم يعلم الرجل إلا بعد موت عبد الله.
وقال محمد بن علي بن الحسن بن شفيق سمعت أبي يقول: كان ابن المبارك إذا كان وقت الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو، فيقولون: نصحبك، فيقول: هاتوا نفقاتكم فيأخذ نفقاتهم فيجعلها في صندوق، ويقفل عليها، ثم يكتري أي يستأجر لهم ويخرجهم من مرو إلى بغداد بأحسن زي وأكمل مروءة حتى يصلوا: إلى مدينة الرسول فيقول لكل واحد: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طٌرفها فيقول: كذا وكذا،، ثم يخرجهم إلى مكة، فإذا قضوا حجهم، قال لكل واحد منهم: ما أمر عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة، فيقول كذا وكذا، فيشتري لهم، ثم يخرجهم من مكة فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو، فيجصص بيوتهم وأبوابهم، فإذا كان بعد ثلاثة أيام عمل لهم وليمة وأرسل إليهم، فإذا أكلوا وسروا دعا بالصندوق، ففتحه ودفع إلى كل رجل منهم صرته عليها اسمه.
ودرس آخر من صلاح ابن المبارك لأصحاب المال وهو التواضع وعدم الترفع على المساكين فهو القائل: ليكن مجلسك مع المساكين وإياك أن تجلس مع صاحب بدعة.
ولم يكن ابن المبارك مغترا بغناه رغم اجتهاده في تسخير هذا المال لخدمة الدين ونفقته على المحتاجين و لا يرى له شرفا وفضلا على الفقراءK بل يستحضر دائما ما في طلب الغنى من خطر الترخص في بعض المخالفات والمعاصي من أجل زيادة المال، فيقِل خائفا على نفسه من هذا الخطر.
ومن أقواله:
يا عائب الفقر ألا تزدجـر عيب الغنـى أكثر لـو تعتبـر
من شرف الفقر ومن فضله على الغنى لو صح منك النظـر
إنك تعصـي لتنال الغنـى وليس تعصـي الله كـي تفتقر
إخوة الإسلام: بكل هذه الجوانب المشرقة في حياة ابن المبارك وطريقة تفكيره وطيب نفسه ومحاسبته لها صار عالما يحتذى به وإماما ربانيا يقتدى به ليس في حياته فقط، بل مازال واعظا لنا بسيرته وهو تحت أطباق الثرى.
ورحم الله بعض الفضلاء إذ يقول:
مررت بقبر ابن المبارك غـدوة فأوسعني وعظا وليس بنـاطق
وقد كنت بالعلم الذي في جوانحي غنيا وبالشيب الذي في مفـارقي
ولكن أرى الذكرى تنبـه عاقـلا إذا هي جاءت من رجال الحقائق
نماذج من كلماته البديعة :
وكان ابن المبارك يقول : لنا في صحيح الحديث شغل عن سقيمه .
وقال : العلم ما يجيئك من ها هنا وها هنا ، يعني المشهور .
وقيل له : هذه الأحاديث المصنوعة ؟ قال : تعيش لها الجهابذة
وسئل ابن المبارك بحضور سفيان بن عيينة عن مسألة، فقال: إنا نهينا أن نتكلم عند أكابرنا.
قال أبو العباس بن مسروق: حدثنا ابن حميد، قال: عطس رجل عند ابن المبارك، فقال له ابن المبارك: أيش يقول الرجل إذا عطس ؟ قال: الحمد لله، فقال له: يرحمك الله .
قال حبيب الجلاب: سألت ابن المبارك: ما خير ما أعطي الانسان ؟ قال: غريزة.
قلت: فإن لم يكن ؟ قال: حسن أدب.
قلت: فإن لم يكن ؟ قال: أخ شفيق يستشيره.
قلت: فإن لم يكن ؟ قال: صمت طويل.
قلت: فإن لم يكن ؟ قال: موت عاجل.
قال نعيم: سمعت ابن المبارك يقول: عجبت لمن يطلب العلم، كيف تدعوه نفسه إلى مكرمة.
وعن ابن المبارك قال: أول منفعة العلم أن يفيد بعضهم بعضا.
وجاء أن ابن المبارك سئل: من الناس ؟ فقال: العلماء.
قيل: فمن الملوك ؟ قال: الزهاد، قيل: فمن الغوغاء ؟ قال: خزيمة وأصحابه، يعني من أمراء الظلمة.
قيل: فمن السفلة ؟ قال: الذين يعيشون بدينهم.
وعنه قال: ليكن مجلسك مع المساكين، وإياك أن تجلس مع صاحب بدعة.
وعن ابن المبارك قال: إذا عرف الرجل قدر نفسه، يصير عند نفسه أذل من كلب.
وعنه قال: لا يقع موقع الكسب على العيال شئ، ولا الجهاد في سبيل الله.
وقال: رب عمل صغير تكثره النية، ورب عمل كثير تصغره النية.
نعيم بن حماد: سمعت ابن المبارك يقول: السيف الذي وقع بين الصحابة فتنة، ولا أقول لاحد منهم هو مفتون.
وعن ابن المبارك، وسئل: من السفلة ؟ قال: الذي يدور على القضاة يطلب الشهادات.
وعنه قال: إن البصراء لا يأمنون من أربع: ذنب قد مضى لا يدرى ما يصنع فيه الرب عزوجل، وعمر قد بقي لا يدري ما فيه من الهلكة، وفضل قد أعطي العبد لعله مكر واستدراج، وضلالة قد زينت، يراها هدى، وزيغ قلب ساعة فقد يسلب المرء دينه ولا يشعر.
قال أبو وهب المروزي: سألت ابن المبارك: ما الكبر ؟ قال: أن، تزدري الناس.
فسألته عن العجب ؟ قال: أن ترى أن عندك شيئا ليس عند غيرك، لا أعلم في المصلين شيئا شرا من العجب.
عن ابن المبارك قال: من استخف بالعلماء، ذهبت آخرته، ومن استخف بالامراء، ذهبت دنياه، ومن استخف بالاخوان، ذهبت مروءته.
وقال: تواطؤ الجيران على شئ أحب إلى من شهادة عدلين.
وقيل: إن ابن المبارك مر براهب عند مقبرة ومزبلة، فقال: يا راهب، عندك كنز الرجال، وكنز الاموال، وفيهما معتبر.
نماذج من جود ابن المبارك رحمه الله:
قال الخطيب: أخبرنا عمر بن إبراهيم، وأبو محمد الخلال، قالوا: حدثنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل الكاتب، حدثنا أحمد بن الحسن المقرئ، سمعت عبد الله بن أحمد الدورقي، سمعت محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، سمعت أبي قال: كان ابن المبارك إذا كان وقت الحج، اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو، فيقولون: نصحبك، فيقول: هاتوا نفقاتكم، فيأخذ نفقاتهم، فيجعلها في صندوق، ويقفل عليها، ثم يكتري لهم، ويخرجهم من مرو إلى بغداد، فلا يزال ينفق عليهم، ويطعمهم أطيب الطعام، وأطيب الحلوى، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي وأكمل مروءة، حتى يصلوا إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول لكل واحد: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طرفها ؟ فيقول: كذا وكذا، ثم يخرجهم إلى مكة، فإذا قضوا حجهم، قال لكل واحد منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة ؟ فيقول: كذا وكذا، فيشتري لهم، ثم يخرجهم من مكة، فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو، فيجصص بيوتهم وأبوابهم، فإذا كان بعد ثلاثة أيام، عمل لهم وليمة وكساهم، فإذا أكلوا وسروا، دعا بالصندوق، ففتحه ودفع إلى كل رجل منهم صرته، عليها اسمه.
قال الحاكم: أخبرني محمد بن أحمد بن عمر، حدثنا محمد بن المنذر، حدثني عمر بن سعيد الطائي، حدثنا عمر بن حفص الصوفي بمنبج، قال: خرج ابن المبارك من بغداد، يريد المصيصة، فصحبه الصوفية، فقال لهم: أنتم لكم أنفس تحتشمون أن ينفق عليكم، يا غلام هات الطست، فألقى عليه منديلا، ثم قال: يلقي كل رجل منكم تحت المنديل ما معه، فجعل الرجل يلقي عشرة دراهم، والرجل يلقي عشرين، فأنفق عليهم إلى المصيصة، ثم قال: هذه بلاد نفير.فنقسم ما بقي، فجعل يعطي الرجل عشرين دينارا، فيقول: يا أبا عبدالرحمن، إنما أعطيت عشرين درهما، فيقول: وما تنكر أن يبارك الله للغازي في نفقته .
نماذج من جهاده وشجاعته:
عن عبدة بن سليمان يعنى المروزي يقول كنا في سرية مع عبد الله بن المبارك في بلاد الروم فصادفنا العدو فلما التقى الصفان خرج رجل من العدو فدعا إلى البراز فخرج اليه رجل فقتله ، ثم آخر فقتله ، ثم دعا إلى البراز فخرج إليه فطارده ساعة فطعنه فقتله ، فازدحم اليه الناس فكنت فيمن ازدحم إليه فإذا هو يلثم وجهه بكمه فأخذت بطرف كمه فمددته فإذا هو عبد الله بن المبارك فقال : وأنت يا أبا عمرو ممن يشنع علينا؟!
ومن جوانب القدوة في حياة ابن المبارك رحمه الله: جهاده في سبيل الله ابتغاء رضى الله عز وجل، فلم يغتر بعبادته ويتكل عليها فيترك الجهاد، وكان ينصح أصحابه ألا تقطعهم العبادة عن الجهاد فكتب إلى الفضيل بن عياض رحمه الله قائلا:
يا عـابد الحرمين لو أبصرتنـا @@ لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعـه @@ فنحورنـا بدمائنـا تتخضب
أو كان يتعب خيلـه في باطـل @@ فخيولنا يوم الصبيحـة تتعب
ريح العبير لكن ونحن عبيرنـا @@ رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقـد أتانـا من مقـال نينـا @@ قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي وغبار خيل الله فـي @@ أنف امرئ ودخان نار تلهب
هذا كتـاب الله ينطـق بيننـا @@ ليس الشهيـد بميت لا يكذب
نماذج من شعره :
عن الخليل أبي محمد قال: كان ابن المبارك إذا خرج إلى مكة يقول:
بغض الحياة وخوف الله أخرجني*****وبيع نفسي بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ******* ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
يقول لتلاميذه إذا أراد أن يرسل أحداً منهم في السفر:
إذا صاحبت قوماً أهل ود فكن لهم كذي الرحم الشفيق
ولا تأخذ بزلة كل قومٍ فتبقى في الزمان بلا رفيق
يقول: حاول أن تصاحب الناس، لكن احذر دائماً أن تبحث عن أخطائهم وتعلق على نواقصهم، فإن العبد فيه نقص، وتجد بعض الناس يطلب الكمال من غيره وهو ليس بكامل، ويطلب أن يخلص الناس أنفسهم من العيوب وهو كله عيوب، مثل ما يقول ابن تيمية : "بعض الناس كالذباب لا يقع إلا على الجرح" فتجده دائماً نقاداً، لا يستطيع أن يعيش مع أحد ولا يستطيع أن يصاحب أحداً، ولا يستطع أن يسافر مع أحد، ثم يوصي كذلك ببيتين آخرين وهما منهج تربوي لمن أراد أن يتعلم أدب السفر وأدب الصحبة مع الناس .
قال ابن سهم الانطاكي: سمعت ابن المبارك ينشد:
فكيف قرت لاهل العلم أعينهم أو استلذوا لذيد النوم أو هجعوا
والنار ضاحية لابد موردها وليس يدرون من ينجو ومن يقع
وطارت الصحف في الايدي منشرة فيها السرائر والجبار مطلع
إما نعيم وعيش لا انقضاء له أو الجحيم فلا نبقي لا تدع
تهوي بساكنها طورا وترفعه إذا رجوا مخرجا من غمها قمعوا
لينفع العلم قبل الموت عالمه قد سال قوم بها الرجعى فما رجعوا
وروى إسحاق بن سنين لابن المبارك:
إني امرؤ ليس في ديني لغامزه لين ولست على الاسلام طعانا
فلا أسب أبا بكر ولا عمراولن أسب معاذ الله عثمانا
ولا ابن عم رسول الله أشتمه حتى ألبس تحت الترب أكفانا
ولا الزبير حواري الرسول ولا أهدي لطلحة شتما عز أوهانا
ولا أقول علي في السحاب إذا قد قلت والله ظلما ثم عدوانا
ولا أقول بقول الجهم إن له قولا يضارع أهل الشرك أحيانا
ولا أقول تخلى من خليقته رب العباد وولى الامر شيطانا
ما قال فرعون هذا في تمرده فرعون موسى ولا هامان طغيانا
الله يدفع بالسلطان معضلة عن ديننا رحمة منه ورضوانا
لولا الائمة لم تأمن لنا سبل وكان أضعفنا نهبا لاقوانا
فيقال: إن الرشيد أعجبه هذا، فلما أن بلغه موت ابن المبارك بهيت قال: إنا لله وإنا إليه راجعون.
يا فضل: إيذن للناس يعزونا في ابن المبارك.وقال: أما هو القائل: الله يدفع بالسلطان معضلة.
فمن الذي يسمع هذا من ابن المبارك، ولا يعرف حقنا ؟
وجاء من طرق عن ابن المبارك، ويقال: بل هي لحميد النحوي:
اغتنم ركعتين زلفى إلى الله * إذا كنت فارغا مستريحا
وإذا ما هممت بالنطق بالباطل * فاجعل مكانه تسبيحا
فاغتنام السكوت أفضل من * خوض وإن كنت بالكلام فصيحا
وسمع بعضهم ابن المبارك وهو ينشد على سور طرسوس:
ومن البلاء وللبلاء علامة * أن لا يرى لك عن هواك نزوع
العبد عبد النفس في شهواتها * والحر يشبع مرة ويجوع
قال أبو أمية الاسود: سمعت ابن المبارك يقول: أحب الصالحين،ولست منهم، وأبغض الصالحين، وأنا شر منهم، ثم أنشأ يقول:
الصمت أزين بالفتى * من منطق في غير حينه
والصدق أجمل بالفتى * في القول عندي من يمينه
وعلى الفتى بوقاره * سمة تلوح على جبينه
فمن الذي يخفى علي * ك إذا نظرت إلى قرينه
رب امرئ متيقن * غلب الشقاء على يقينه
فأزاله عن رأيه * فابتاع دنياه بدينه
ما يتعلق بوفاته من أخبار :
عن أبي الحسن عبد الوهاب بن عبد الحكم قال: لما مات ابن المبارك بلغني أن هارون أمير المؤمنين قال : مات سيد العلماء.
قال أحمد بن عبد الله العجلي: حدثني أبي قال: لما احتضر ابن المبارك، جعل رجل يلقنه، قل: لا إله إلا الله، فأكثر عليه، فقال له: لست تحسن، وأخاف أن تؤذي مسلما بعدي.
إذا لقنتني، فقلت: لا إله إلا الله، ثم لم أحدث كلاما بعدها، فدعني، فإذا أحدثت كلاما، فلقني حتى تكون آخر كلامي.
قال عبدان بن عثمان: مات ابن المبارك بهيت وعانات في شهر رمضان سنة إحدى وثمانين ومئة.
قال حسن بن الربيع: قال لي ابن المبارك قبل أن يموت: أنا ابن ثلاث وستين سنة.
من مواضع ترجمته :
أفرد الإمام الذهبي ترجمة الامام ابن المبارك في كتاب أسماه (قضِّ نهارك بأخبار ابن المبارك) ، ذكره الصفدي في الوافي بالوفيات ج2ص164 وفي نكْت الهميان ص243 وابن شاكر الكتبي في عيون التواريخ وغيرهما، والظاهر أن الذهبي أدخل معظم هذا الكتاب في كتابه (سير أعلام النبلاء) ، انظر هذه المصادر الثلاثة و(الذهبي ومنهجه في تاريخ الإسلام) للدكتور بشار عواد معروف ص202.
اللهم بصرنا بعيوبنا، وقنا شر أنفسنا وارحم ضعفنا واجبر كسرنا وأصلح فساد قلوبنا، وأستغفر الله لي ولكم.
وصل الله علي خاتم النبين والمرسلين وآله وصحبه وسلم تسليما