إلى زمن يسير مضى ، كان هذا الموضوع جزءا من معرفة لها علاقة بالسحر ، وبالخوارق التي لم يكن العلم بعد يجد لها تفسيرا مقبولا من وجهة النظر العلمية .
واليوم تصبح الباراسيكولوجيا الحديثة والفيزياء الإحصائية ، وفيزياء الطاقة ، وجانب معين من الكيمياء العضوية ، معنية كلها بالموضوع ، ودفعة واحدة .
كل شيء الآن ، يؤكد بأن هناك عالمين يتوازيان مجازا ، ولكنهما في حقيقتهما متفاوتان.ذلك أن أحدهما يسبق الآخر إلى الوجود بالضرورة:عالم الطاقة أو القوى ، وهو العالم الذي توجد فيه الأشياء في حالتها الأولى ؛ وعالم الفعل ، وهو العالم الذي توجد الأشياء فيه برسومها وأجسامها وعوارضها المحدثة والآيلة إلى الفناء بعد حين، أو عالم المادة والواقع الملموسين .
ولو أن المرء تأمل طبيعة كل من هذين العالمين ، لوجد أن الثاني بقدر ما يكون عَرَضاً زائلا آفلا كالسراب ، يجره الزمن جرا إلى حتفه ونهايته ، بقدر ما يكون الأول خالدا باقيا لحكمة أرادها الله عز وجل وعلمها بإرادته وعلمه المطلقين ، فكأن عالم القوى أصل للأشياء وعالم الفعل صورة لهذه الأشياء ، وهكذا تذهب الصورة بعد حين بمجرد زوال قوالبها ، كما يختفي الانعكاس في المرآة بمحرد زوال المرآة أو تهشمها ، ويبقى الأصل حيث هو ليدل كما دل منذ خلقته الأولى على خالقه دلالة الأثر على صاحبه ودلالة الصنعة على الصانع ، دون أن يكون في هذا الأمر أدنى علاقة عضوية أو غيرها بين الخالق والمخلوق.فلا جزئية ، ولا اتحاد ،ولا وحدة وجود ولا حلول البتة .
ولو استغرق المتأمل أكثر فأكثر في تمعنه للعلاقة بين العالمين المذكورين ، لوجد أن الشيء في عالم الفعل والمادة يذهب ويندثر ولكن يبقى موجودا هو ذاته في عالم القوى والطاقة في شكل وصورة مغايرين هما شكله الأول وصورته الأصلية .
يأخذ الواحد منا آنية من الفخار مثلا ، فيكسرها ، أو يمحقها محقا فيحولها إلى غبار رقيق تذروه الرياح أو يختلط بالتراب فلا يعود له في عالم الفعل أي أثر ، ولكنه لا يسعه أن يمحو ويمحق العمل الخلاق الذي تولدت عنه تلك الآنية ، والذي يشكله عالم الصانع وتجربته وإرادته وقدرته وقوته على الفعل وموهبته وحاسته الجمالية...الخ.
وكل هذه ما هي إلا مكونات ((طاقتية)) و((قوتية)) (نسبة إلى الطاقة والقوة)تحفظ للعقل قدرته على تمثل نفس الآنية في أي لحظة فكأنها لا تزال موجودة ((فعلا)) لا((قوة)) فحسب .
نفهم من هذا أن للزمن هيمنة وقهرا في عالم الفعل(المادة)لا يتأتيان له في عالم القوى.ولذلك فــالأشــياء والموجودات في عالم قوى الأشياء لا عمر لها ، ولا زمن يكتنفها ، وإنما هي كما هي منذ وجودها الأول الناتج عن الأمر الإلهي((كن)) ،لا يقدم فيه شيء ولا يؤخره لأنه لا تقديم ولا تأخير بعد أمر الله وإرادته وقدرته .
يساعدنا هذا الفهم ، على إدراك بعض الإشارات التي ترد في السنة الشريفة وفي بعض الأخبار والآثار والمعاينات الباطنية عن أحوال النفس والإنسانية بعد الوفاة ، حيث يبدو أن النفوس في عالم الآخرة (أي الخارج عن نطاق الزمن والمادة والفعل...)تكون في أحسن تقويم ، وفي أكمل وأجمل صورة لا يؤثر فيها أي عامل من العوامل إلا أن يأذن الحق عز وجل لأعمالها من الحسنات أو السيئات بالانعكاس عليها كما ينعكس نور الشمس أو تلبد السحاب على أديم ماء صاف رقراق .
يساعدنا ذلك أيضا ، على فهم بعض الرؤى التي تصادفنا في أحلامنا ، عند المنام ، والتي نرى فيها بعض موتانا من الأقارب والمعارف في حالات عجيبة من الفُتُو والعنفوان. ذلك أن هذه الرؤى بالذات ، على تلك الصورة ، تؤذن بأن الحلم ليس مجرد أضغاث وإنما هو تجوال باطني حقيقي يتم بقوى عقولنا في ذلك العالم الآخر ، عالم القوى ، حيث يتسنى للرائي فعلا أن يعاين أحوال الهالكين ، وإن كانت هذه الرؤيا لا تصدق إلا في حالات معينة نادرة يكون العقل فيها وقواه في كامل الانعتاق من ربق الجسد.وهذا ما يمكن فهمه من قول الحق عز وجل بقبضه الأنفس عند منامها وبإرساله سبحانه إياها إلى أجل مسمى ، أو احتفاظه بالتي جاء أجلها فلا تستقدم ولا تستأخر .
يمكننا أن نقدم مثالا ، عن علاقة عالمي القوى والفعل ، أكثر بساطة ويسرا على الفهم ، بعقد مقارنة بين روح النباتات المشتملة على الكحول ، وهذه خاصية كل النباتات بلا استثناء ، وبين الخمور وأشكال الكحول المستخرجة منها ، حيث تشكل القوة المسكرة خارج نطاق النبتة أو الثمرة نموذجا لساكنة عالم القوى ، ويشكل الكحول المستخلص قوى العقل القادمة من ذلك العالم كطاقة ، ثم المتحولة في عالم الفعل أو عالم المادة إلى كحول يتخلل النبتة أو الثمرة ، وحيث تكون النبتة أو الثمرة ذاتها بمثابة الجسم العارض والفاني في عالم الأشياء ، على سبيل المثال ، وجدنا الثمرة أو النبتة مقابلة للأنا السفلى وللجسد والحواس وألفينا الكحول الخالص مقابلا لقوى العقل في خروجه من النبتة وتحوله إلى غاز نفاذ ، ثم لوجدنا الطاقة المسكرة(الروحية) في هذا الجوهر مطابقة للنفس المتوفاة وهي في العالم الآخر ، عالم القوى.ولو أننا تصورنا اختفاء النبتة أو الثمرة من عالم المادة والفعل ، وتحول رحيقها النفاذ(الكحول)إلى غاز يتراوح وجوده بين المادة والطاقة ، فكأنه وسيط يصل بــيــن العالمين
كما يفعل العقل وقواه في الإنسان ، لما استطعنا بتاتا أن نتصور ولا أن نعتقد بانمحاء القوى المسكــرة أو الطــاقـة الأساسية ، غير المادية ولكنها وجودية ، مهما تحللت ومهما عادت إلى حالتها الأولى مطلقة البساطة.ذلك أنها-علميا،وهذا ما أثبته العلم الحديث بالتجربة- تبقى موجودة وقابلة لأن تقاس قوتها ويضبط أثرها مهما تعددت الفضاءات الطاقوية التي تحتويها ومهما اختلفت .
نفهم من هذا كيف أن الطاقة والقوى هي أساس المادة ، وهي منتهاها ومطافها الأخير في آن واحد.