علم الباطن النوراني هو جوهرة التصوف الرباني وهذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة.
أصلها=العكوف على العبادة والانقطاعإلى الله تعالى، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوةللعبادة،
= وكان ذلك عاماً في الصحابة والسلف.
طريقةهؤلاء القوم، لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم، طريقة الحق والهداية
فلما فشاالإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا= اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة.
فلما كتبت العلوم ودونت=وألف الفقهاء في الفقه وأصوله والكلام والتفسير وغير ذلك= كتب رجال من أهل هذه الطريقة في طريقتهم.
= فمنهم من كتب في الورع ومحاسبة النفس على الاقتداء في الأخذ والترك، كما فعله "المحاسبي" في "كتاب الرعاية له"،
ومنهم من كتب في آداب الطريقة وأذواق أهلها ومواجدهم في الأحوال كما فعله "القشيري" في "كتاب الرسالة"، و"السهروردي" في "كتاب عوارف المعارف" وأمثالهم.
وجمع "الغزالي" بين الأمرين في "كتاب الإحياء"، فدون فيه أحكام الورع والاقتداء، ثم بين آداب القوم وسننهم وشرح اصطلاحاتهم في عباراتهم.
= وصار علم التصوف الباطني النوراني في الملة علما مدوناً، بعد أن كانت الطريقة=عبادة فقط، وكانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال،
كما وقع في سائر العلوم التي دونت بالكتاب من التفسير والحديث والفقه والأصول وغير ذلك.
فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد والانفراد عن الخلق، = اختصوا بمآخذ مدركة لهم،
وذلك أن الإنسان بما هو إنسان إنما يتميز عن سائر الحيوان بالإدراك، وإدراكه نوعان: إدراك للعلوم والمعارف من اليقين والظن والشك والوهم، وإدراك للأحوال القائمة من الفرح والحزن والقبض والبسط والرضا والغضب والصبر والشكر، وأمثال ذلك.
فالروح العاقل والمتصرف في البدن تنشأ من إدراكات وإرادات وأحوال، وهي التي يتميز بها الإنسان. وبعضها ينشأ من بعض، كما ينشأ العلم عن الأدلة، والفرح والحزن عن إدراك المؤلم أو المتلذذ به، والنشاط عن الحمام، والكسل عن الإعياء.
وكذلك المريد في مجاهدته وعبادته، لا بد وأن ينشأ له عن كل مجاهدة حال نتيجة تلك المجاهدة = وتلك الحالة إما أن تكون نوع عبادة، فترسخ وتصير مقاماً للمريد، وإما أن لا تكون عبادة، وإنما تكون صفة حاصلة للنفس. من حزن أو سرور أو نشاط أو كسل أو غير ذلك من المقامات. ولا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام، إلى أن ينتهي إلى التوحيد والمعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة. قال صلى الله عليه وسلم: " من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة " . فالمريد لا بد له من الترقي في هذه الأطوار، وأصلها كلها الطاعة والإخلاص، ويتقدمها الإيمان ويصاحبها، وتنشأ عنها الأحوال والصفات نتائج وثمرات. ثم تنشأ عنها أخرى وأخرى إلى مقام التوحيد والعرفان. وإذا وقع تقصير في النتيجة أو خلل فنعلم أنه إنما أتى من قبل التقصير في الذي قبله. وكذلك في الخواطر النفسانية والواردات القلبية. فلذا يحتاج المريد إلى محاسبة نفسه في سائر أعماله، وينظر في حقائقها، لأن حصول النتائج عن الأعمال ضروري وقصورها من الخلل فيها كذلك. والمريد يجد ذلك بذوقه ويحاسب نفسه على أسبابه. ولا يشاركهم في ذلك إلا القليل من الناس، لأن الغفلة عن هذا كأنها شاملة.
وغاية أهل العبادات، إذا لم ينتهوا إلى هذا النوع، أنهم يأتون بالطاعات مخلصة من نظر الفقه في الأجزاء والامتثال. وهؤلاء يبحثون عن نتائجها بالأذواق والمواجد، ليطلعوا على أنها خالصة من التقصير أولاً، فظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال والتروك، والكلام في هذه الأذواق والمواجد التي تحصل عن المجاهدات، ثم تستقر للمريد مقاماً، ويترقى منها إلى غيرها.
ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم،
إذ الأوضاع اللغوية = إنما هي للمعاني المتعارفة. فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف، اصطلحنا عن التعبير عنه بلفظ يتيسر فهمه منه.
لهذا اختص هؤلاء بهذا النوع من العلم (الذي ليس يوجد لغيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه)
وصار علم الشريعة على صنفين: صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا، وهي الأحكام العامة في العبادات والعادات والمعاملات،وصنف مخصوص بالقوم في القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس عليها، والكلام في الأذواق والمواجد العارضة في طريقها، وكيفية الترقي منها من ذوق إلى ذوق، وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك.
ثم إن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها غالباً = كشف حجاب الحس، والاطلاع على عوالم من أمر الله، ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها.
والروح من تلك العوالم.
وسبب هذا الكشف= أن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس، وقويت أحوال الروح، وغلب سلطانه وتجدد نشوؤه، وأعان على ذلك الذكر، فإنه كالغذاء لتنمية الروح، ولا يزال في نمو وتزيد،= إلى أن يصير شهوداً بعد أن كان علماً.ويكشف حجاب الحس، ويتم وجود النفس الذي لها من ذاتها، وهو عين الإدراك.
= فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية والعلوم المدنية والفتح الإلهي، وتقرب ذاته في تحقيق حقيقتها من الأفق الأعلى، أفق الملائكة.
وهذا الكشف كثيراً ما يعرض لأهل المجاهدة فيدركون من حقائق الوجود ما لا يدرك سواهم.
وكذلك يدركون كثيراً من الواقعات قبل وقوعها ويتصرفون بهممهم وقوى نفوسهم في الموجودات السفلية،= وتصير طوع إرادتهم. فالعظماء =منهم لا يعتبرون هذا الكشف ولا يتصرفون، ولا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتكلم فيه، بل يَعُدُونَ ما يقع لهم من ذلك محنة، ويتعوذون منه إذا هاجمهم.