الحقيقة التي يبحث عنها الإنسان
إنما هي حقيقة الكون وحقيقة نفسه أو حقيقة كنه الأشــياء أو دورها أو مركزها أمامه . وهذه الحقيقة مجردة من الحقيقة ، لأن معرفتها تدل علــى قــوة الأشياء فنجد الإنسان يسعَى إلى القوة للسيطرة فقط .
أما الحقيقة المفروضة على الإنسان ، فهي معرفة كل حقيقة دون استخلاص ما فيـه ، ودون إرادة ترتيبها ترتيبا آخر يجعل الأشياء خاضعة له ، والحقيقة المجردة هي حكمة كل الحكـماء وخلاص كل باحث ، وللبلوغ لهذه المرتبة لابد من استعمال العقل دون استغلاله فيما يستنــفع به الإنسان من استكثار حاجياته أو شهواته ولذاته فقط .
فلابد للعق من حكمة تكون حاكمة بحكمتها للإنسان حتى يجد طريقة في كـل بــحــث ، ولا يمكن فصل علم عن علم آخر بمجرد عدم الاقتناع ، أو عدم توفر أدلة مادية لذلــك الــعــلــم ، والإنسان إن تميز بالعقل فالواجب أن يكون عاقلا ويقبل الأشياء المطروحة علـيــه فــي هــذه الحياة أو المفروضة عليه حتى يتم له التمييز بين الخطأ والصواب . وإن خطأ الإنسان بدأ مـذ أخذ يحاول تسخير الطبيعة كلها له ، والطبيعة فيها ما هو مسخر لها ليضمن سـر حــركــتــها ودوامها ، وفيها كذلك ما سخر للإنسان . ونجد الطبيعة تساعده في استعمال ما سخر لـه دون عناء . وسبب الخطأ كله هو وجود علمين ، علم علم ، وعلم جهل ، فعلم العلم هو علـم فــيــه المعرفة للحقيقة المجردة من كل استغلال ، وأما علم الجهل ، فهو معرفة قد تـضــر الإنســان وهو يحسب أنه يستنفع بها ، ويبقى ذلك علما حقا لأنه معرفة ، ولكـن وجــب علــى الإنــسان الوقوف عند حد بعض الأشياء وبعض العلوم ، إذا تبين له أنها تضر به . وعند سـوء تــوازن ما يحيط بالإنسان يسوء توازن العقل ويصبح الإنسان مهتما بهمومه ولا يهتم بما يــهــمه عن نفسه . والإنسان إن تغير أمره ، أخطر عليه من كل تغير في الطبيعة ، لأن الطـبــيــعــة لــها نموذجها لتغيير ما يغيره الإنسان ، ولها القدرة على الرجوع إلى أصلها .
ولأن الرجوع إلى أصل الأشياء هو رجوع إلى أصل المعرفة ، وقبل أن نرجع إلى مصـدر وجود الإنسان أو سر الكون وأصله ، فلابد أن نرجع إلى أول خلقة الإنسان وبعــد ولادتــه إذ كان بعقله ، والعقل راكد فيه وقد وجدت عنده فطرة الرضاعة دون سابق تعلـيــم فــكان ذلــك ضرورة . حياة الجسم هي التي دفعت قوة الإلهام الحاسي حتى تمكن الإنسان من الرضاعــة، فكانت حاسة الجسم للحياة منفصلة عن العقل في حواسه ، وعندما يدركها العقل يلبي رغــبــة حاجة الجسم ويرجع العقل الحواس للجسم مترجما له إرادة الرضاعة ، وبعد أيام نجد الطفــل يكتسب حواسه ويتعرف عليها إذ هي موجودة فيه ، فيفهم في مدة ما يراه بعد أن يكتسب قــوة الرؤيا ، وكذلك قوة السمع ، فيفزع للأصوات الغريبة عنه ، وعند كمال الحواس فـي قــوتــها نجد الإنسان يتفرغ للبحث عن الجلوس والمشي وكل ما يحتاج إليه ، ثم يتعرف على الأشـياء الخارجية عن جسمه بحجمها ، أو نعدها ، أو حرارتها ، ثم بذوقها ، أو رائحـتها . فــيــتــصل الإنسان بعد ذلك بمعرفة العلوم الموضوعة في الطبيعة ، وهناك أشياء يـرثــها الإنــسان مــن فصيلته ، أو يتوارثها ممن يحيط به ، وقد نركز عقله في البحث عن أشياء سليمة ، أو نجْـبـره على السعي إلى وسائل إجرامية . وهذا الميدان كله إنما هو طريقة تطور العقل فـي الأفــكار، وليس تطور الأفكار في العقل ، لأن العقل لا يخضع لمسطرة معينة ، بل يرجع للجسم فـعالية ما يطلب منه الخضوع إليه . ونجد الإنسان هو الذي خضع للمسطرة المعينة وليس العــقــل . والعقل هو وسيلة تسجيل لما يريده ، أو ما يسعى إليه فقط .
إن التسجيل في العقل يتم بواسطة الحواس وحدها ، والأفكار كذلك إن لم تأخـذ صــبغــتــها صوريا أو إحساسيا لا تسجل في العقل ، وكل مالا يحفظه الإنسان مما يريد حفظه ، أصــلـه راجع على عدم تمكنه من إعطاء صورة ما لما يسعَى إلى حفظه ، وإن توفر لمشهد ما ، قـوة الخوف والفزع تتجمع الحواس كلها فيتم التسجيل في العقل بوسيلة واضحة يذكرهـا الإنــسان دائما وبسرعة ، والعقل لا يسجل فيه شيء في حد ذاته بل كل ما يسجله يحتفظ به فـي خــلايا الدماغ كما يضع النحل العسل في خلايا خليته .