الله عز و جل و الخلق
بلا أدنى ريب أن الله القائم بذاته لا يستمد وجوده إلا من ذاته وبذا فإنه لا يحتاج قط إلى كل ما يخلقه. وهنا يحق لنا أن نتساءل: إذن الله لماذا يخلق كل الأشياء؟
الواقع أن الإنسان باعتباره أرقى المخلوقات قاطبة عندما يشرع مفكراً ومتأملاً في هذا الوجود ومن خلقه. فعندما يؤمن بأن الله هو الخالق يلح عليه السؤال لماذا الله يخلق؟ فإنه قطعاً يبحث عن الحقيقة.
وإذا ما انتقلنا من التفكير الميتافيزيقي إلى المادي. نرى أن الجيولوجيين مثلاً يدرسون الصخور... لماذا؟
لكي يحددوا عمر الأرض. أي أنهم يبحثون عن حقيقة ما تتعلق بالمادة. وكذا الحال مع باقي فروع العلوم الطبيعية.
فما هي الحقيقة إذن؟
الحقيقة لا يوجد اختلاف في مفهومها وإنما يوجد الاختلاف في تفسيرها وبذلك يظهر التضارب بين الحقائق المادية والفكرية. وهذا التضارب نحن الذي نضعه ونتمسك به. بدليل أن قلنا أن الماء مركب من أوكسجين وهيدروجين فهذه حقيقة كيماوية مادية بحتة. وإن قلنا 2+3=5 فهي حقيقة حسابية فكرية صرفة. وقس على ذلك. وإذن فإن الحقيقة تكون متعلقة في ذات الشيء فإذا قلنا بأن الماء هو ماء دون ذكر مركباته الكيماوية فهي حقيقة أو إذا قلنا بأن العدد 5 هو الناتج لأي مجموع يساوي في عدد ال5 فهي حقيقة. معنى ذلك أنه هنالك حقائق مادية فكرية في موضع تلتقي وفي موضع تتباعد. فعلم الفلك ناشئ على أسس رياضية بحتة والعلم يرتكز على الفلسفة وأن استقل عنها كاختصاص لا أكثر. وإذن فإن اكتشاف حقيقة ما لأي شيء تكون بتوافق العقل مع حقيقة ذاك الشيء. سواء كان مادياً أو فكرياً أو حتى مزدوجاً. ومن الحقائق يتوجب أن تكون هنالك حقيقة تعتبر هي حقيقة الحقائق.
فما هي حقيقة الحقائق؟
أن مجموع الحقائق التي تجعلنا نبحث ونقصي فتارة نقترب في أفكارنا وتارة أخرى نتباعد فهنا تكمن حقيقة الله في الخلق لأن الله هو حقيقة الحقائق جميعاً. فعندما تصل العلوم الطبيعية إلى أن المادة عاجزة عن أن تخلق فهي حقيقة من حقائق الله الذي خلق الوجود في أشياء وظواهر كيما يعجّز عمن سواه إذ لا مقتدر إلا هو وحده دون غيره. وما الاختلاف الذي يحدث إلا نتيجة حريتنا الفكرية التي بها نستدل على الحقائق أو نتعامى عنها. فالله عندما يخلق ذلك لأنه شاء أن يفعل ففعل وأن كل الحقائق تشهد عليه لأنه هو تعالى حقيقة الحقائق.
من المعلوم أن البحوث العلمية وبدون قصد قد ارفدت لنا سيلاً من الأدلة الكثيرة والقاطعة حول إثبات وجود الله (هذا إذا أخذنا بالاستدلال المنطقي) حيث أن هذه العلوم التي انفصلت عن الفلسفة ومنها الفيزياء والكيمياء كانت غايتها فقط الخروج من العالم النظري إلى العالم الواقعي والبحث عن خبايا هذه الطبيعة والاستفادة منها قدر المستطاع كيما تقدم للبشرية وثبة مميزة وملحوظة، لا سيما وأن هذه العلوم لا تبحث عن مشكلة النشأة الأولى ذلك لأن هذه المسألة من المشكلات الفلسفية القحة. ومع ذلك بعد أن أدت هذه العلوم أبحاثها خلال المائة سنة المنصرمة. نرى أن كل شيء عاد تقريباً نحو الفلسفة وبدأ السؤال عن النشأة الأولى للخلق. صحيح أن هذه العلوم لا تسأل ولا تجيب عن:
لماذا هذا الخلق؟ وكيف أتى؟
ولكن بعد أن أثبتت الكثير من الحقائق المادية. كان تأكيدها بصورة جلية عن وجود خالق مبدع هندس كل هذه الأشياء. علماً أن هذه لم يدخل في حساب هذه العلوم قط.
صفوة القول أن البحث الميتافيزيقي هو حقيقة فكرية أو أن أحببت فقل أن المبدأ المثالي أسلم من المبدأ المادي. حيث أن الحقائق الفلسفية والحقائق العلمية بعد التقصي من خلال الاستدلال المنطقي، نعلم بأن حقيقة الحقائق تتجه صوب الله. أما لماذا الله يخلق وتتجه إليه كافة الحقائق؟ ذلك لأن الله هو الذي أراد فعل ذلك. أما لماذا أراد فعل ذلك؟ لأنه الخالق المالك لكل شيء. أراد من الحقائق أن تشهد عليه كيما نقوّم نفوسنا من خلال حرية تفكيرنا بدلاً من أن نذهب شططاً، أي أنها فرصة من الخالق إلى مخلوقه كيما يرفع من شأنه الخسيس إلى الذرى.
ونعلم بأن الأب يرفض أن يخرج الابن عن طاعة أوامره. لماذا؟ لأن الأب شاء وأراد ذلك. ولماذا أراد ذلك؟ لأنه يبغي أن يوجه ابنه نحو استقامة جيدة وصالحة لذا يخشى عليه أن يخرج عن طاعته ويفسد وهذه حقيقة تربوية اجتماعية. كما وأنها حالة تعبيرية عن حقيقة الحقائق وهو الله حينما خلق الكون وأودع فيه هذا النظام الشامل والقوانين السارية في كل الأشياء. وجعلها حقائق تعجيزية تشهد على حُسن صنعه أمام مخلوقه الإنسان. والله الذي أراد كل ذلك إنما يفعل بمحض إرادته دونما أن يكون هنالك أي سبب خارج عنه. لذا فإن الخروج عليه تعالى يعني إفساد نفوسنا نحو التقويم الصحيح. والتسليم بالقدر المجهول الذي يتلاعب بنا من وإلى المادة وهو إجحاف بحق مقدرة العقل في الاستدلال المنطقي عن الحقائق ويجب أن نتجاوزه.
بمعنى آخر أن الله لا يحتاج إلى ما خلقه، إلا أنه خلق كل شيء لأنه هو الذي أراد ذلك بمحض إرادته، ويمكن أن نستدل على ذلك من خلال الحرية الفكرية التي بواسطتها نشاء بما نريد أن نؤمن به ولا نؤمن. وهنا يتوقف القرار سلباً أم إيجاباً بمحض إرادتنا. فإذا ما اتجهنا إلى صوب الله أو المادة أو أي مفهوم آخر، فإنما نحن نعمل وفق حريتنا هذه التي تركها الله إلى مخلوقه الإنسان كيما يكون أكثر عدلاً في ثوابه أو عقابه على ما فعل به الإنسان. وعلى ذلك يطمئن الإنسان وهو يتجه إلى صوب الله الخالق لا، لأنه ذلك أمراً لا مفر منه. بالعكس إنما ذلك ناتج عن حُسن استغلالنا إلى حريتنا الفكرية. وهنا تبرز أيضاً بشكل جلي لماذا الله يخلق؟ لأنه يمنح مخلوقه منزلة سامية يختلف بها عن بقية المخلوقات والأشياء كافة. وهي عدالة الله في الخلق أيضاً.
أن معالجة الأمراض يحتاج إلى علماء وأطباء. وبناء مشروع ما يحتاج إلى تصميم وتنفيذ. ونصب صرح تذكاري يحتاج إلى نحات وهكذا. فإن الاتجاه دوماً يكون بالضرورة وليس بالفعل. فالمريض لا يمكنه إجراء عملية جراحية لنفسه. والعامل البسيط ليس بمقدوره تصميم وتنفيذ مشروع ضخم، كما وليس باستطاعة الموسيقار أن يضع نحتاً دون اختصاصه. وقس على ذلك فالإنسان يتجه إلى ما يحتاجه بالضرورة لا بالفعل. لأن الإنسان يحمل النقص في ذاته ولذا يسارع إلى سدها بالضرورة وتبرز بشكل واضح في الاجتماع البشري وتسمو برتبة أعلى وذلك بالاتجاه نحو ذات المتكاملة.
وإذن فإن الله الذي شاء بخالص إرادته أن يخلق. فإن الإنسان إنما يبحث عن الحقائق بالضرورة بغية سد النقص الذاتي له. وهنا يكون الإنسان جملة وتفصيلاً أما أن يتجه إلى صوب الذات المتكاملة أو أنه يتعامى عنها ويتجه صوب المادة. وفي كلا الحالتين تبقى الضرورة هي الدافع الأساسي للإنسان وليس الفعل. فلو كان الفعل لما احتاج الإنسان إلى ضرورة أحد. بل وأنه يصل في رتبة عالية يعرف فيها الله ولا يخالف بها قط كما هو الحال عند الملائكة. وعليه فإن الحرية الفكرية والضرورة التي يبغيها الإنسان في سد نقصه الذاتي تجعله أما أن يكون مؤمناً بأن الله يخلق على نحو من عدالته كيما يرفع من شأن الإنسان إلى سمو أعلى أو أن يكون على عكس ذلك ويعتبر فكره في دفائن المادة.
وإذا انتقلنا من الفروض العلمية والشروح الفلسفية إلى الدين. نرى أن الأنبياء كذلك لهم بالضرورة معجزات كيما يثبتوا بها نبوتهم وحقيقة اتصالهم مع العالم العلوي. لأن الإنسان مقيد بهذا العالم المادي حتى بات مؤمناً في لا وجود إلاّ لهذه الحياة. وهكذا تصطحب الأنبياء معجزات خاصة بهم. ليعيدوا الإنسان إلى رشده والاتجاه صوب الله الخالق. وإذن فإن الضرورة هي التي تكمن في وراء كل دافع في البحث عن الحقائق. فلو كانت بالفعل لما احتاج الله أن يرسل أنبياءه مذكرين بالعالم العلوي والحساب والثواب في اليوم الآخر. وعليه فإن الله عندما يخلق لا يمنح الإنسان كل شيء بالفعل. وإنما يمنح الإنسان حرية الاختيار الفكري وبالتالي يكون الإنسان بالضرورة يتجه إلى صوب الحقائق. فإن كان إيمانه بهذه الحقائق على مقياس مادي صرف. فالله في غنى عن هذا الإنسان الأعمى عقلياً وأن كان للإنسان استدلال منطقي يتجاوز به المقياس المادي فإن الله له شأن آخر مع هذا الذي يصل بالحقائق إلى الحقيقة الأبدية إلا وهو الله الخالق. وإذن فإن الله له شأن فيما يخلق.
الواقع أن جميع الاستدلالات لا تتم إلا من خلال الاتصال بين ما هو مرئي ولا مرئي. وبما أن العقل متجرد عن المادة وبه نكتشف الحقائق المادية إذن فإن العقل ضرورة إنسانية. توج بها الله الإنسان كيما يغور في أعماق الفكرة في البحث عن الحقيقة. حقيقة ما ينبغي وصولها. وبما أن الله يخلق بخالص إرادته دونما أن يكون هنالك من سبب ما خارج ذاته. لذا فإن الإنسان يتجه بعقله في البحث عن الذات المتكاملة بغية سد نقصه الذاتي وهنا تكون الحرية متعلقة بالإنسان وحده أي أن رد فعلها يترتب على الإنسان كفرد له عقل وحرية الاختيار بأن يؤمن أو لا يؤمن. وهذه أيضاً من شؤون الله في الخلق.
(كيف حدث الخلق)
أن من ينظر إلى الكون وما فيه، وإلى الذرة وما تحتويه، وإلى الخلية وما فيها، يحق له أن يتساءل: كيف خلق الله الوجود؟
لنأخذ هنا الإعداد المنطقية المرتبة ونقرر أن نبتدئ من حدّ أو عدد معين فإذا قلنا "1" أو "أ" فإنه لابد وأن ننتقل إلى العدد "2" أو الحد "ب". وإذا أشرنا مجازاً للتعبير عن العدد أو الحد الأول عن الله الواحد إذن العدد أو الحد الثاني يجب أن يكون تعبيراً عن الوجود. ذلك أنه قد رأينا في (الإشارات) السابقة بأن الخالق لا خالق له وأن المادة لا يجوز أن تكون أزلية في وجودها لأنه لا يمكن أن يكون هنالك خالق أزلي وهنالك شيء مشارك له في أزليته. وبذا يتوجب كل شيء حادث عن الأول القديم. فلو كانت المادة قديمة فإن الله الخالق يحدث الشيء من الشيء وتبقى هنا أولوية المادة مشاركة إلى أولوية الله وهذا نقص تعالى الله عنه وإذن أوجب أن تكون بين الأولويتين أسبقية أحدهما على الآخر فإذا كان الله هو الأول أوجب على المادة أن لا تشارك في أي شيء وبذا فهي محدثة وأن الله الخالق يحدث الشيء من اللاشيء وعليه فقد أحدث المادة من العدم. واتى الخلق دفعة كلية واحدة. وإذن فإن الانتقال من "1" إلى "2" أو من "أ" إلى "ب" وهو اتصال عددي أو حدّي ناتج عن بداية الأول على الثاني ومهما استمرينا بالانتقال العددي فإن الأول يبقى الأساس في المتسلسلة. أي أن الوجود مهما كثرت الموجودات فيه فإنه بالأساس حادث عن الله الأول.
وإذا استعرضنا بصورة مختزلة إلى النظريات المادية الحديثة في كيفية حدوث الخلق. نرى أن نظرية بفون في القرن الثامن عشر والتي تنص على أن الكواكب في المجموعة الشمسية قد نشأت بالأساس من الشمس بسبب اصطدام جرم كوني هائل الحجم. ونتيجة إلى هذا الاصطدام تطايرت أجزاء عديدة من الشمس وخرجت عن جاذبيتها ومنها من بقي يخضع تحت جذبها وهكذا بعد انقشاع هذه الحالة تكونت المنظومة الشمسية في كواكبها على ما هي عليه الآن. وتعتبر نظرية بفون هذه أول محاولة علمية في تفسير نشأة الكون في العصر الحديث. ثم تبعتها نظرية العالم الرياضي لابلاس الذي اعتبر أن الشمس ومجموعتها الكواكبية كانت في القديم على هيئة سديم بدأ يفقد حرارته تدريجياً حتى تم انفصال أجزائه عن بعضها البعض من الوسط على شكل حلقات غازية والتي كونت فيما بعد كواكب المجموعة الشمسية هذه والتي حافظت بدورانها على الاتجاه نفسه التي كانت تدور فيه سابقاً داخل السديم.
وبالنسبة إلى نظرية الجسيمات الكوكبية التي يرى فيها تشامبرلين وملتون على أن نجماً هائلاً اقترب من جاذبية الشمس مما أدى إلى حدوث انفجارات متواصلة داخل الشمس خرجت منها نتيجة ذلك مواد غازية وسائلة متجهة نحو النجم. وبعد ابتعاده استقلت هذه المواد عن الشمس والنجم وشكلت جسيمات صغيرة صلبة كثيرة الإحصاء والعدد والتي تكونت منها بعد ذاك كواكب المجموعة الشمسية بصورة تدريجية من النحو المتواصل أما "نظرية المد الغازي" فهي مقاربة الشبه إلى النظرية الآنفة الذكر. ولا تختلف عنها سوى أن النجم الهائل الحجم عند اقترابه من الشمس حدث خروج لهيب واحد جبار من الغاز المستقل من الشمس إلى جهة النجم ومن ثم انفصل عن الجانبين ليكون منظومتنا الشمسية الحالية. أما شأن النظريات الحديثة جداً ومنها "نظرية سحابة الغبار العظمى" والتي شارك في وضعها عدد كبير من العلماء المعاصرين والتي لا تخرج في فحواها عن تأييد نظرية لابلاس السديمية. وكذلك الحال نفسه تقريباً مع فريد هول ونظريته عن "النجوم المزدوجة".
ومن الملاحظ أن جميع هذه النظريات لا تستند على قانون علمي بحت بل فقط عبارة عن افتراضات علمية وكما هو معلوم ليس كل افتراض علمي صحيحاً. بمعنى أن الافتراض العلمي التي تؤيده التجارب بعد التأكد من إثارة يشكل درجة في تطوير المعارف والكشف عن الحقائق وهذا ما لم يحدث قط في اغلب العلوم ومنها الافتراضات العلمية في أصل نشأة الكون. بل أنها لا تختلف بكثير عن النظريات العقلية عند فلاسفة اليونان إلا بالدرجة العلمية، وعلى ذلك نرى أن بفون يقابل طاليس والفرق بينهما أن الأول انطلق من الشمس والثاني انطلق من الطبيعة. وكذلك الوضع نفسه مع لابلاس الذي يقابل هرقيلطس وقليلاً من فيثاغورس.
جملة القول أن كانت المسألة تتعلق بالعلم فإنها وكما هو واضح فارغة عن القوانين العلمية الثابتة وأن كانت فلسفية المفهوم فأوجب أن لا تقتصر على المادة وحسب، وإذن علينا أن نأخذ الحقائق القاطعة التي يصل إليها العلم ونلتزم بطريقة الاستدلال المنطقي في قوة العقل كيما نحافظ على البنية العلمية والفلسفية وبالتالي نصل إلى أن أصل نشأة الكون حدثت من خالق قدير عظيم الإرادة ولم تأتِ مجموعتنا الشمسية بحدث مادي صرف. وإنما بفعل إلهي بحت.
عندما يحاول الإنسان أن يبدع في عمل ما وليكن هذا الإبداع مادياً في صناعة الصاروخ الفضائي أو غيره. فإنما هو يمنح صورة جديدة إلى المادة المتقبلة على أشكال الصور. وقواه الفكرية تجعل من هذه الصورة الجديدة نقطة متقدمة على الصور السالفة. وهكذا يكون في مقدرة الإنسان أن يمنح المادة صوراً جديدة يخضعها وفق متطلباته العملية. وبما أن الإنسان أعلى كائن موجود لذا فمن هذه الحالة نأخذ دلالة على مقدرة الله على الخلق لهذا الكون ودفعة واحدة. حيث أن الإنسان الذي يمتلك المقدرة على الخلق في الابتكار والإبداع من الشيء المتقبل للصور ومنحه الصور الجديدة فإن القوة العقلية هذه هي الاتصال مع ما وراء هذه القوة. أي مع من يمتلك القدرة في خلق الشيء ومنحه الصورة من اللاشيء واللاصوري وهو الله. وإذن فإن قدرة الله في خلق هذا الوجود على جهة كلية ومن العدم تشهد عليه قوى الإنسان العقلية في الخلق المادي. لأن صورة الإبداع تكون موجودة بالأساس في العقل ويستخرجها الإنسان بعد تأمل وتفكير بالضرورة كيما يطور نفسه. وبما أن نتاج الإنسان الإبداعي يكون حادثاً عنه إذن فإن الخلق يكون حادثاً عن الله ودفعة واحدة لأن منزلة الخالق في الإبداع ليست لها حدود.
لو فرضنا بأن الخلق كان مادياً صرفاً دونما أن تكون هنالك أية مقدرة إلهية خارج عنها. فمن المعلوم أن العلوم الطبيعية قد توصلت إلى تحديد عمر الكون والذي يناهز الخمسة بلايين سنة وأنه حدث على شكل دفعة واحدة وأن عمر الأرض ثلاثة بلايين سنة وعمر الإنسان يزيد عن مليون سنة. وهكذا، أي هنالك بدايات استطاع بها الإنسان أن يحدد بداية الخلق المادي ولكن ظهور بداية في الخلق عن مادة لا بداية لها. وأن لكل بداية معلومة نهاية تقف عندها حيث لا يجوز أن نسلم بظهور بداية معينة وتستمر إلى ما لا نهاية ذلك لأنها تشارك الشيء الذي لا بداية له. فإذا كان تفسيرنا مادياً أكثر وجعلنا هذا الاستمرار في التطور الخلقي للمادة فإننا قد ناقضنا نفسنا بنفسنا وإذن لابد وأن تكون هنالك نهاية لهذا الخلق. وعليه فإن التسليم بوجود نهاية لبداية معلومة نكون قد جعلنا من المادة في شتى الأحوال قدرنا المجهول، وإذا ما قارنا بالعقل بين وجود مادة أزلية خالقة والله الأزلي الخالق فإنه قطعاً علينا أن نتجاوز كل تفسير أعمى يزجنا إلى غياهب المجهول لهذه المادة العفنة والخسيسة ونتجه إلى صوب الخالق ذلك أن بداية الخلق أن توصلنا إلى حقيقة تشخيصها نكون قد أدركنا أكثر بأن الخالق الذي لا بداية له ولا نهاية يكون خلف هذا الخلق الذي بدأ منه وينتهي إليه وليس هنالك من مجهول يتلاعب بهذا الخلق.
قلنا أن العلم لا تعجيز فيه وإنما التعجيز في المحصلة التي يصل إليها العلم والتي يتطلب منا الاستدلال المنطقي في تحليلها عقلياً. كيما نتجاوز المقاييس المادية ونصل إلى التسليم بخالق جليل مبدع. وعليه فعندما يصل العلم إلى إثبات وحدة الكون من الناحية الكيمياوية حيث لا يوجد فارق بين نجم كبير وجزيء الذرة. وأيضاً مع الكائنات الحية التي تشترك جميعها في مادة البروتوبلازم. فإن كذلك كله يشير إلى قاسم مشترك واحد يسري في الوجود بأسره رغم الاختلافات الشاسعة بين صور الجمادات وصور الأحياء. وهذا أن دل على شيء فإنما يدل على وجود خالق مصور لكل شيء وعنه حدث هذا الخلق دفعة واحدة.
(الله قبل الخلق)
قلنا أن الله هو الواجد لوجوده والقائم بذاته والمساوي لوجوده في ذاته وبذا فإنه متكامل الكمال في وحدة وجوده الإلهي حيث يستمد أزليته نفسه بنفسه. وهو وحده يعلم علمه وقدر قدرته. وعلى ذلك فإن وجود الله تبارك اسمه وتعالى قبل الخلق أو بعده على ما ذكرناه قبل برهة. غير أن الخلق حدث من محض إرادته وهو المالك على فعل ما يشاء أن يفعل الشيء من اللاشيء أو العكس فله القدرة المطلقة وهو الرب العظيم.
الواقع نحن لا نعلم على جهة فردية أعمق من ذاكرتنا الحياتية في وقائع الأمور اليومية. أما أبعد من ذلك فأننا نتجه إلى صوب العلوم والمعارف التي هي أبعد من أعمارنا القصيرة وهكذا فإذا أخذنا بداية التاريخ الإنساني والتي تمتد إلى عشرة آلاف سنة حيث بداية ظهور الكتابة الهيموغروفية وإذا ما ذهبنا إلى ما قبل التاريخ البشري حتى انتهى إلى ما قبل ظهور نشأة الوجود فإن الحالة أشبه بحالة الصفر المطلق، أي وجود مادي جمادي لا حياة عضوية فيه البتة. وبما أن المادة محدثة إذن فإن حالة العدم هي الحد الفاصل بين الله والوجود قبل الخلق. وبما أن الخالق الأول لا أول على أولويته إلا ذاته القائم بها ولا خالق له وإنما هو الواحد لنفسه وبنفسه. إذن فإن الله الخالد بوجوده الإلهي كان قبل الخلق في ذلك ويكون بعد الخلق في ذلك وإنه شاء وهو في عالمه السماوي المحض أن يخلق الوجود المادي ففعل وهو العلام بكل شيء فأحدث المادة من العدم كيما تعود بعد الفناء إلى لا شيء ولا يبقى إلا عالمه الإلهي المجرد الخالد، لأن قبل الوجود لا وجود إلا وجوده الإلهي الأبدي.
أن الله كائن خبير أزلي يستمد وجوده الإلهي من ذاته وهو شاء أن يخلق الوجود بمحض إرادته دون داع خارج ذاته. كما يشاء الإنسان أن يعتنق مبدأ ما أو يؤمن بشيء ما فهذه الحرية التي تركها الله في الإنسان كيما يتفكر بها عقلياً ويستدل من خلالها على عدالة الله في الخلق وحسن تدبيره الدقيق المبدع في هندسة هذا الخلق الذي قدر فيه كل شيء فأحسن إخراجه. وإذا ما وصل الإنسان إلى هذه المنزلة من التفكير سوف يدرك جيداً منزلة الله الخالق قبل الخلق وما معنى الخلق.
بمعنى آخر أن امتلاك الإنسان إلى العقل والحرية تجعله كائناً مميزاً له الإرادة بأن تتجه صوب العالم الإلهي أو العالم الأرضي وأنه وحده يتحمل عبء ما قد قدمه. ومن هذه الحالة ندرك عدالة الله الذي ميز هذا الإنسان بهذه الصفات والتي نستدل منها أيضاً بأن الله قبل الخلق باستطاعته أن يجعل الوجود جحيماً أو نعيماً إلا أنه ترك للإنسان أن يقرر ذلك وعليه نرى البشرية تنقسم إلى نوعين الأولى مؤمنة تتجه صوب الله وترجو منه النعيم والأخرى تدحض ذلك فلا نعيم أبدي إلا في هذه الحياة الدنيوية. وإذن فإن الله القائم بذاته قبل الخلق عليم بكل شيء سوف يحدث بعد الخلق سواء كان ذلك على أجزاء أو كليات.