سلام الله عليكم
سنكتب قصة ليست كأدب فقط… بل يجب على روحك ان تتعرف على معانيها ..
السالك حين يسمع حكاية عرفانية لا يقرؤها بعقله .. بل يستيقظ بها من داخله.
كان في قرية بجنوب المغرب رجل اسمه مبارك ...
رجل طيب القلب .. كثير الذكر .. يعرف الله في قلبه كما يعرف الطفل وجه أمه.
لكن ذات ليلة .. اقترب منه ساحر سفلي .. كان ساحرا بتلك القرية و حينما رأي مبارك جالسا لوحده
اقترب منه هذا الساحر كان يكره النور في القلوب.
الساحر لم يلمس مبارك بيده .. بل اقترب منه كثيرا ثم نفث عليه من ظلمة الهوى والشك ..
بعد يومين أغشى بصر مبارك وبصيرته .. حتى صار لا يرى في الصلاة إلا حركات بلا روح ..
ولا في الوجود إلا خواء بلا معنى.
شيئا فشيئا .. و يوما بعد يوم جف نبع الإيمان في صدره ..
وصار كلما سمع اسم الله شعر بثقل في روحه... تاه في الجبال و اتسخ حاله ..
فقد عقله و ماله و نفر منه اصحابه و عائلته و صارو يسمونه المجنون ..
بقي على هذا الحال سنتين في الجبال تائها و في العراء نائما ..
فجاة استيقض و حيا من الموت الذى دخله ..
فقال في نفسه .... لقد فقدت... لقد سحرت ..
فمضى يسأل الناس عن علاج ..
فمنهم من أعطاه رقيةً .. ومنهم من سقاه ماء مقروءا .. و منهم من بخره و منهم من غسله و عمده .
لكن السحر لم يكن في جسده… كان في باطنه.
في أعماق نفسه .. حيث تتصارع الظلمة والنور.
حتى قاده القدر إلى رجل يقال له مولانا الحاج البشير رحمه الله ..
شيخٌ عارف .. لا في المظاهر بل في الأسرار.
كانت عيناه هادئتين كبحر يعرف عمقه ..
وكان يقول و يردد دائما .. الظلمة لا تطرد بالسيف .. بل بالشمس.
دخل عليه مبارك وقال و هو فى هلع كبير ..
– يا سيدي.. قد سحرت بسحر سفلي .. فقدت إيماني .. وضاع قلبي.
ابتسم الشيخ وقال له ..
– لم يسحروك يا ولدي .. بل أقنعوك أن السحر أقوى من النور فيك.
وما إن تؤمن بذلك .. حتى يسكن السحر في قلبك.
ثم أضاف ..
– كل سحر ظلمة .. ولا سلطان للظلمة على من في قلبه شمعة.
لكن شمعتك انطفأت بالخوف .. لا بالسحر.
جلس الشيخ في صمت طويل .. يسمع شكاوى مبارك و تذمره ..
ثم قال له ..
– سأعالجك .. ولكن العلاج ليس مني .. بل منك.
هل تجرؤ أن تدخل في ظلمة نفسك لترى من أين يأتي الدخان؟
فأجابه مبارك .. نعم.
قال الشيخ .. إذا أغمض عينيك .. وتذكر لحظة شعرت فيها بالنور الحقيقي.
ففعل مبارك ما قال له الشيخ ..
وسمع الشيخ يتمتم بصوت خافت لا يشبه التعاويذ بل ذكر من جوهر الروح.
فجأة رأى مبارك في باطنه بابا من نور قديم ..
بابا يعرفه .. لكنه نسيه منذ زمن...
وحين اقترب منه .. سمع همسا يقول .. ما سحرت يا مبارك… أنت فقط غفوت و غفلت.
حين فتح عينيه .. كانت الدموع على خديه و يرتجف بشدة و يشهق من البكاء ..
قال الشيخ
– هل رأيت؟ لم أخرج السحر منك .. بل أخرجت إيمانك من تحت رماده.
السحر لا يعيش إلا في الفراغ بينك وبين الله ..
فإذا امتلأ القلب بالذكر .. مات السحر جوعا.
ومن يومها عاد مبارك يرى في كل شيء وجه الله
في كل ظلمة احتمالا للنور.
و كل من سأله كان يقول
ذهبت إلى الحاج البشير لأشفى من السحر .. فعرفت أن السحر لم يكن في الهواء…
بل في نفسي حين صدقت أنني بعيد عن الله.
بعد أيام من لقائه بالشيخ الحاج البشير رحمه الله ..
بدأ مبارك يشعر بشيء غريب في صدره ..
لم يعد يخاف الظلمة .. بل يسمع فيها نداءا خفيا يقول له .. ادخل الى باطنك ففيه ستجد ما تبحث عنه ..
كان يسير في طرق القرية كمن يرى الدنيا للمرة الأولى
الأشجار تتحدث .. والريح تذكر الله تعالى.. والنهر يسبحه سبحانه دون صوت.
كل شيء صار رسالة و كل شيء فيه رمز و كل شيء فيه جواب عن تساؤل ؟
رجع إلى الشيخ الحاج البشير وقال له ..
– يا سيدي .... السحر زال .. لكن شيئا آخر بدأ ...
أرى في كل شيء معنى .. وفي كل معنى شيئا من الله ..
أهذا هو الشفاء أم بداية جنون آخر؟
ابتسم الشيخ وقال ... بل هذه بداية الرؤية.
كنت مريضا لأنك كنت ترى العالم بعين واحدة.
الآن فتحت عينك الثانية — عين البصيرة.
قال مبارك ..
– فماذا أفعل بها هذه عين البصيرة؟
قال الشيخ ..
– إن الله لا يعطي النور لتتفرج به .. بل لتسير به.
الآن تبدأ رحلتك .. أن تتعلم كيف تكون عارفا .. لا فقط ناجيا.
من نجا من الظلمة فقد ولد ..
ومن عرف النور فقد عاش.
ثم أشار الشيخ إلى جبل بعيد وقال ..
– هناك.. خلف هذا الجبل .. عين ماء نقية جدا.. لا يشرب منها إلا من عرف عطشه الحقيقي.
اذهب إليها.
فإن وصلت .. ستفهم ما هو الإيمان الذي لا يسحر.
انطلق مبارك .. حاملا قلبه كقنديل...
كل خطوة كانت امتحانا.
في الطريق... هاجمته وساوس قديمة
صوت يقول .. ( لقد شفيت صدفة )...
وصوت آخر يهمس .. ( النور وهم .. ارجع ) .. ( الشيخ يكذب عليك لا تصدقه ؟ )
لكنه تذكر قول الشيخ .. الظلمة لا تطرد بالسيف .. بل بالشمس ..
فكان كلما شعر بالخوف و الشك و الوهن .. يردد ذكرا بسيطا علمه إياه الشيخ ..
رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين
حتى وصل إلى عين الماء عند سفح الجبل.
كان ماؤها ساكنا .. صافيا كمرآة.
وحين نظر فيه .. رأى وجهه…
لكنه لم يكن وجهه القديم بل كان مضيئا .. وفي عينيه عمق لا يحد.
سمع من أعماقه صوتا يقول ... أنا النور الذي كنت تبحث عنه في الخارج أنا فيك منذ الأزل ولكنك كنت غائبا عني.
فبكى مبارك حتى تطهرت دموعه.
ثم قام .. وعاد إلى القرية.
لم يعد يبحث عن الشيخ ..
لأن الشيخ كان قد استقر في قلبه.
صار يعالج الناس لا بالرقى .. بل بالكلمة ..
وكان يقول لهم .. السحر الذي يطفئ النور لا يأتي من غيركم بل من خوفكم من أن تكونوا نورا.
ومن يومها بعدما حج بيت الله لقب بـالحاج مبارك النوراني.
وكان إذا سئل عن سر شفائه قال
لم يخرج الشيخ السحر مني بل أخرجني من السحر.
مضت أعوام على رحلة الحاج مبارك ..
لم يعد الناس يعرفونه بالرجل المجنون الذي شفي من السحر..
بل بالرجل الذي يذكر الناس بما نسوه في انفسهم.
لم يتخذ مجلسا ولا زاوية ..
كان يجلس تحت شجرة عند أطراف القرية ..
ومن جلس إليه .. أحس أن العالم يصمت ليفسح الطريق لكلماته.
وذات يوم .. جاءه فتى تائه .. عيناه غارقتان في الخوف.
قال له – يا سيدي .. أشعر أني مفقود .. أني مثقل بشيء أسود في داخلي.
لقد جربت علي كل الرقى .. وكلها تفشل.
أشعر أني مسحور .. كما كنت أنت قديما.
ابتسم الحاج مبارك ابتسامة كما ابتسمها له الحاج مولاي البشير عندما رأه أول مرة ..
ابتسامة من يعرف الطريق إلى الشفاء قبل أن يسمع الألم كله ..
وقال لم تسحر يا بني .. بل صرت تؤمن أن الظلمة أقوى منك .. وهذا هو السحر.
هل رأيت الظلمة في يوم تقاوم الشمس؟
قال الفتى بصوتٍ مرتعش .. لكني لا أرى تلك الشمس في قلبي.
قال الحاج مبارك .. إذا اجلس .. ولنبحث عنها معا.
جلس الفتى .. وأغمض عينيه كما أشار له الحاج مبارك ..
لم يقرأ عليه طلاسم .. ولم يرش عليه ماء مقروء عليه ..
بل قال بهدوء يشبه دعاء الملائكة
– تنفس النور .. وتذكر لحظةً في حياتك شعرت فيها أنك بخير دون سبب.
أين كنت؟ كيف كان قلبك؟
فقال الفتى .. كنت صغيرا… في حضن أمي .. لا أخاف شيئا.
قال الحاج مبارك .. تلك اللحظة هي النور الذي لا يسحر.
هو فيك منذ وجدت .. لكن الكبر والشك غطياه بالتراب.
قم الآن .. واذكر الله كما يذكر الطفل أمه .. بلا خوف .. بلا طلب .. بلا حساب.
فأغمض الفتى عينيه وبكى بصمت.
ولم يدر متى شعر أن شيئا أسود خرج من صدره بلا ألم ..
ففتح عينيه فرأى أن وجه الحاج مبارك يضيء كالقمر المنير ليلة البدر ..
قال الفتى ماذا فعلت بي؟
قال الحاج مبارك .. لم أفعل شيئا.
النور حين يدعى يعود بنفسه
والقلب حين يفتح بابه .. يدخل الله قبل أن يطرق الباب.
ثم قال له .. لا تشكرني .. اشكر الذي جعلك ترى أن ما تظنه موتا هو بداية ميلاد جديد.
اذهب الآن .. وذكر غيرك كما ذُكرت... و لكن قبلها اذهب وراء هذا الجبل ففيه عين ماء ..
اشرب منه و توضأ و صل فيه .. فستجد الحقيقة ..
فانصرف الفتى ودموعه لم تجف وكان قلبه يردد في صمت النور لا يوهب مرتين.. لكنه يتكاثر بالحب
وأما الحاج مبارك .. فجلس تحت شجرته وحده
ينظر إلى الأفق ويقول .. تمت الدائرة .. الشيخ علمني النور وأنا نقلته ..
وغدا سيحمله آخر .. حتى لا يبقى في الأرض قلب يصدق أن السحر أقوى من الله.
ثم أغمض عينيه .. وكأنه يسمع من بعيد صوت الشيخ الحاج البشير يقول:
العارف من صار هو النور الذي كان يبحث عنه.
ابتسم .. وسكنت عليه السكينة كغطاء من النور .