يقول "دراكولا" شيطان الإنس الشهير..
لم أحظَ بشرف متابعة تاريخ سيدي مثل بقية الشياطين.. إلا أنني حظيت بشرف
رؤيته أكثر من مرة.. ولأن لي عينًا ثاقبة حادة لا تفوتها فائتة.. فإني سأكون خير
من يصفه لمن لم يرَه.. ويتوق إلى رؤياه المقدسة..
لقد كان رجلًا قويَّ البنية جدًّا.. عريض المنكبين.. ليس ذا قامة طويلة وإنما هو
أقرب للقصر.. أحمر البشرة مثل أبناء الجنس الأبيض القوقازي.. شعره أسود
شديد الجعودة طويل شديد التشابك.. متباعد الساقين.. جمع صفات الإنس كلها
وصفات الجن.. ولهذا فإن إسراعه في الأرض كسرعة الريح العاصفة.. وهو
يرى الإنس والجن والشياطين ويرى الملائكة.. ويراه أولئك كلهم.. ولا تجري
عليه أحكام الزمان.. يعيش منذ أيام فرعون وحتى نهاية الزمان.. لا يهرم ولا
يشيخ.. هو سيد الجن وسيد الشياطين.. ولاسيد له إلا أبوه "لوسيفر".. وسيكون
سيد الإنس في نهاية الزمان.
ولرأسه هيئة يتهيأ لك لما تراها وكأنها رأس ثعبان أو أصَلَه.. لست أدري كيف
أقرب الأمر إلى ذهنك لكن رأسه كانت توحي إليَّ بهذا الإيحاء دائمًا.
يقول الشيطان "بافوميت" معبود فرسان الهيكل. .
عاش سيدي في مصر الفرعونية وتعلَّم عِلمًا لا يسعه عقل إنس ولا جن.. لا يسعه
إلا عقل كعقل سيدي.. علمه إياه أبوه "لوسيفر" وحكماء الجن.. وليس بمقدوري
أن أحكي عن تفاصيل حياة سيدي "أنتيخريستوس" في مصر.. إلا أنه يمكنني أن
أقول إنه لما تعلم ركوب البحر قرر أن يُبحر من مصر الفرعونية ويغادر
ليستكشف العالم من حوله.. وظلَّ يجول بين البلاد والشعوب يتعلم ويراقب حتى
انتهى بإبحاره إلى اليمن.. وتحديدًا إلى جزر لها اسم عجيب.. جزر حنيش في
اليمن.. أو جزر الثعبان.. وقد انتقى منها جزيرة واحدة ليكون فيها مقامه أبد
الدهر.
وحدث في ذلك الزمن أن الفراعنة المصريين كانوا يجهزون سفينة عظيمة..
لتقوم برحلة بحرية طويلة. . وقد وضعوا على تلك السفينة خمسمئة من أشجع
رجال مصر وأكثرهم حنكة ودراية بالبحر.. وبينما كان هؤلاء في رحلتهم إذ
هبت عليهم عاصفة عاتية.. ظلت تروح بالسفينة وتغدو بها حتى اصطدمت
بالصخور في وسط البحر.. وغرق كل من كان على السفينة وسط البحر
الغاضب.. ماعدا رجل واحد.. تعلق بلوح خشبي من ألواح السفينة المحطمة.. وظل
التيار يجرفه وهو متعلق باللوح لثلاثة أيام وثلاث ليال.. حتى انتهى به التيار إلى
شاطيء جزيرة.
أفاق الرجل بعد طول نصب وجوع على شاطيء الجزيرة التي لاحظ أنها ذات رمال
ساخنة.. لكنها كانت حقًا جزيرة غنَّاء لم يرَ مثلها في حياته كلها.. وهو البحًار
الذي لم يترك أرضًا جميلة إلا وطأها.. لكن تلك الجزيرة كانت تختلف.. كانت
الجزيرة مليئة بالحيوانات من كل جنس ولون.. وفيها من كل الثمرات التي عرفها
والتي لم يعرفها.. فشرع يصيد ذوات اللحم ويطهو ويأكل اللحم والسمك..
ويقدم قرابين مشوية للآلهة المصرية التي يعبدها امتنانا لهم من أجل سلامته
وحسن حظه.
وفجأة اهتزت الأرض واهتز الشجر وبرز له رجلٌ يرتدي رداء ذهبيًا جميلًا.. كان
الرجل قد امتلأ رعبًا من هول المفاجأة.. لم يكن ذلك الرجل الفرعوني يعلم أنه
أول من يطأ بقدمه من البشر جزيرة سيدي.. جزيرة "أنتيخريستوس".. قال له
سيدي بصوته الهادر الممتلىء قوة :
- من أين أرض جئت؟
قال البحَّار في جزع من قوة سيدي وعظمته :
- جئت من أرض مصر.. لقد كنت أُبحر مع رفاقي البحًارة العظام في
سفينة.. ثم إن البحر قد غضب علينا ورمى بسفينتنا إلى الصخور..
فتحطمت وغرق الكل إلا أنا.
قال له سيدي بصوت هادىء حكيم :
- لا تجزع أيها المصري فأنت آمن هنا في جزيرتي.. لقد كنت أنت
المختار الوحيد الذي نجا من الكارثة التي هلك فيها العديد من الرجال
العظماء المصريين.. أنت المختار الوحيد أيها المصري.
قال له البحّار وقد بدأ يهدأ :
- ومن أين أنت أيها الرجل القوي؟
قال له سيدي "أنتيخريستوس":
- لا يهمك من أين أنا.. يمكن أن تدعوني بالثعبان.. لقد كان يعيش معي
على هذه الجزيرة سبعين من رفاقي.. لكن شهبًا سقطت عليهم
فأحرقتهم جميعًا.. ولم أنجِ إلا أنا.. وفتاة صغيرة أخرى.
قال البحَّار:
- يبدو أنك محظوظ مثلي أيها الثعبان.
بدا على سيدي "أنتيخريستوس" شبح ابتسامة وهو يقول للبحار :
- إن لدي القدرة على التنبؤ أيها المصري.. وإنه ستأتيك بعد شهور
أربعة سفينة أخرى تنقذك وتعيدك إلى بلادك.
فرح البحار فرحًا غامرًا وقال :
- حقَّا أيها الرجل الطيب؟ حقًّا؟ أقسم بعظمة الآلهة أنه لو حدث ما
تقول لأعودن إليك محمَّلًا بالهدايا والكنوز والبخور والقرابين من
مصر.
ضحك سيدي "أنتيخريستوس" وقال له:
- ليست جزيرتي بحاجة إلى أي شيء يمكنك أن تحضره.. ولتعلم أيها
المصري.. أنك ما إن غادرت جزيرتي هذه فإنه لن يكون بمقدورك
العودة.. لأن جزيرتي هذه سوف تختفي في البحر.. ولسوف تُظهر
نفسها للتائه المختار التالي الذي ستقوده قدمه إليها.
قال سيدي "أنتيخريستوس" فجأة :
- ولكن أيها المصري فور عودتك إلى بلادك ليس مسموحًا لك أن تذكر
أنك قابلت إنسيًّا هنا.. بل قل إنك قد قابلت ثعبان.. وليصدقك من
يصدقك وليكذبك ومن يكذبك.
قال الرجل :
- كما تريد أيها الثعبان.
وبعد مرور أربعة أشهر وصلت سفينة بالفعل إلى الجزيرة وأهدى سيدي
"أنتيخريستوس" إلى البحار المصري هدايا وعطايا كثيرة.. من العاج والكحل
والعطور والبخور ونبات السنا والتوابل والأخشاب والذهب والفضة ومن الحيوانات
الزراف والقرود ليأخذها معه إلى مصر.. وأمضى البحّار في سفينته الجديدة
شهرين.. وكان ينظر إلى جزيرة "أنتيخريستوس" وهي تتضاءل وتتضاءل حتى
اختفت تمامًا كما أخبره "أنتيخريستوس".
ولما عاد ذلك الرجل إلى مصر حكى قصته تلك إلى الوزير الذي حكاها بدوره
إلى فرعون.. وأمر فرعون رئيس الكتبة "آمون آمونا" أن يكتبها على البردي
وكوفىء البحَّار بمنصبٍ كبيرٍ في القصر الفرعوني وهو كبير موظفي القصر
تعويضًا له عن محنته ومكافأة له على روح المغامرة التي يتحلى بها.
قرأت أيها الإنسان هذه البردية في العصر الحديث وكان اسمها "قصة الملاح
التائه" ولم تفهمها أيها الإنسان.. الحقيقة التي ذكرها "أنتيخريستوس" لذلك
الرجل عن السبعين رفيقًا من رفاقه الذين ضربتهم الشهب.. أن هؤلاء شياطين
كانوا يعملون في مقام خدمة سيدي "أنتيخريستوس" ويأتمرون بأمره.. وإنه قد
نما إلى علمه أن الله سيبعث في بني إسرائيل نبيًّا عظيمًا.. فغضب سيدي لذلك
غضبًا شديدًا وأمر جميع الشياطين أن تصعد إلى السماء لتأتيه بالخبر اليقين عن
ذلك النبي ومتى سيبعث.. وعندها حدثت المأساة الحزينة.. لقد أُمطرت جميع
الشياطين بشُهب من السماء فأحرقتهم كلهم.. كما يحدث دائمًا عند اقتراب
نزول أي نبي.. كان النبي الذي وُلِد فيما أتى من الأيام هو "موسى".. أما
"أنتيخريستوس" فلم يبق معه على الجزيرة سوى شيطانة واحدة.. وهي التي
سماها للبحار بالطفلة الصغيرة.. كانت تلك هي الشيطانة "سباي".. وكانت
لاتزال طفلة أيامها.
يتبع...